أربعة، على الأقل، من كبار كتاب وشعراء القرن التاسع عشر، يعتبرون توماس دي كوينسي استاذهم وملهمهم، ويعترفون بأنهم كتبوا بعض أعمالهم بتأثير مباشر منه، بل هناك منهم من يعتبر انه عاش ردحاً من حياته تحت تأثير أفكار هذا الذي كان واحداً من أوائل الذين مزجوا بين الابداع والحلم، بين العقلانية والهلوسة، بين الذاتية المطلقة والانفتاح الواعي على العالم، بما فيه من وضوح وخفايا. وعلى رغم ان دي كوينسي حين رحل عن عالمنا عام 1859 في ادنبورغ، قرظ كفيلسوف ومفكر وعالم اقتصاد، إضافة الى كونه شاعراً و«روائياً» رؤيوياً الى حد ما، فإن الكتابين اللذين جعلا لهذا الكاتب الانكليزي ذي الأطوار الغريبة، سمعته ومكاناته، كانا أقل كتبه «عقلانية» وابتعاداً من النزعة الموضوعية الواقعية التي كانت سائدة في انكلترا ذلك الحين. وهذان الكتابان هما «القتل كواحد من الفنون الجميلة» و«اعترافات ملتهم أفيون انكليزي». ونتوقف هنا عند هذا الكتاب الثاني، مع ان الكتاب الأول لطالما فتن الكتاب السورياليين. أما الكتاب الثاني، فإنه ذلك الكتاب الذي «أعيد اكتشافه» خلال سنوات السبعين من القرن العشرين حين سادت النزعة الهيبية، وصار تناول المخدرات والغوص في «رحلة الأحلام» - بحسب التعبير الأميركي - جزءاً من تعبير شبيبة ما عن رفضها لمجتمع الآباء والقيم البورجوازية السائدة. وهكذا، إذا كان توماس دي كوينسي قد حاز كل تلك الشعبية منذ السبعينات، وبعد رحيله بأكثر من قرن، فإنه كان نسخة مختلفة عن دي كوينسي الحقيقي: كان شخصاً آخر اخترعته مخيلة الشبيبة، في صورة مستقاة مباشرة من الصورة التي رسمها له بودلير في القرن التاسع عشر، وخصوصاً من الصورة الأكثر رومانطيقية التي يسفر عنها تفاعل عميق مع «السيمفونية الخيالية» للفرنسي هكتور برليوز، تلك السيمفونية التي كتبت انطلاقاً من تفسير ألفريد دي موسيه، تحديداً، لنص توماس دي كوينسي «اعترافات ملتهم أفيون انكليزي». والحال أن «ملتهم الأفيون» المعني هنا، هو توماس دي كوينسي نفسه. فهذا الكاتب الرومانسي بامتياز، غاص في ذاكرته وأعماق دخيلته في خريف العام 1821، وكان في السادسة والثلاثين من عمره، ليكتب الصيغة الأولى من هذا النص الذي نشر أولاً في «لندن ماغازين» ثم في كتاب في عام 1822، ليعاد نشره في طبعة منقحة وفريدة في عام 1856، قبل رحيل دي كوينسي بأعوام قليلة. وهذا الكتاب، الذي لا شك في أن دي كوينسي، يستعيد فيه ذكرى أخته التي ماتت وهي في سنوات طفولتها، كما يستعيد ذكرى حبيبته آن، المومس الشابة التي ماتت، هي الأخرى، وكانت بعد في الخامسة عشرة، هذا الكتاب يروي حزن الفتى وتجواله شريداً في ويلز، ليقول لنا كيف ان حاله تلك قادته الى الإدمان على الأفيون الذي كان يساعده أول الأمر على مقاومة آلامه الجسدية والنفسية، غير ان المشكلة بدأت تتجسد في شكل سيّء، كما يروي دي كوينسي في نصه، حين راح يزيد من حجم جرعة اللودانيوم اليومية التي يتناولها، ما جعله يعيش يومياً حالاً من الرعب والكوابيس وأحلام اليقظة التي راحت تدمره. ويفيد دي كوينسي في نصه المرعب هذا، انه استمر على تلك الحال أكثر من ثماني سنوات، شعر بعدها بأن ما يفعله انما هو انتحار بطيء وأكيد. فماذا يفعل؟ بكل بساطة يبدأ بعلاج نفسه بنفسه، إذ تأكد ان إدمانه سيقوده الى الموت. وهو ينجح في ذلك، على عكس ما كان يمكن لنا أن نتوقع: ينجح إذ يتمكن من تخفيف الجرعة يوماً بعد يوم، وعلى رغم ما أصابه من جراء ذلك من آلام رهيبة. وفي النهاية يتوقف ادمانه. من المؤكد ان هذا السياق الذي يتخذه النص يجعله يبدو، للوهلة الأولى، نصاً وعظياً اخلاقياً. غير ان الأساسي ليس هنا. والكتاب السورياليون وغيرهم - من بودلير الى وايلد الى هويسمان - لم يخطئوا حين أكدوا تجاوز ذلك الجانب الوعظي، ليتوقفوا فقط عند الشاعرية والعمق اللذين وصف بهما دي كوينسي أحلامه وكوابيسه في لغة متميزة وتعبير صارخ. كان هذا هو الأساس، لأن هذا النص - وعلى الأقل في هذا الجانب منه - كان أشبه ب «هبوط لذيذ الى الجحيم» بحسب تعبير هويسمان، حيث ان دي كوينسي، ومن دون أن ينكر الأثر السيء للادمان تفنن في الحكي عن «فتنة الأحلام» و«روعة الكوابيس» وما يتاح للمدمن من خروج عن «سياق هذا العالم الممل». ولئن كان كتاب كثيرون قد قاربوا بين نص دي كوينسي و«اعترافات» جان - جاك روسو، فإن الشعراء الحالمين فضلوا دائماً نص دي كوينسي، تحديداً بسبب ما فيه من أحلام وشاعرية ألهمتا الرسامين والموسيقيين باكراً، ثم ألهمتا شبيبة بأسرها خلال الثلث الأخير من القرن العشرين. هنا قد يكون مفيداً أن نذكر ان النص، أصلاً، يتألف من جزءين متداخلين: وصف الأحلام والكوابيس والآلام والتشرد والوحدة من ناحية، وسرده الظروف والتفاصيل التي قادت البطل الشاب الى ذلك «المصير». ومن المؤكد ان دي كوينسي بدأ كتابة عمله هذا، عبر وصف الأحلام والكوابيس وما حولها في لغة شاعرية مملوءة بكل ما سيكون من شأنه أن يثير اعجاب وحماسة السورياليين - الذين رأوا في تلك النصوص كتابة عفوية ومباشرة -، ثم بعد ذلك وإذ انتهى من كتابة هذا كله وقرأه، أضاف اليه - وعلى عجل كما يبدو - النصوص الأخرى التي تتحدث عن ظروف الكتابة وعن الأحداث التي قادت الشاب الى مصيره. ولعل الجزء الأجمل في هذا النص، بحسب محللي هذا العمل الاستثنائي، هو ذاك الذي يصف فيه دي كوينسي أجواء لندن الليلية حين عاشها تائهاً ضائعاً، فإذا بفتاة هوى صبية (آن) تأخذ بيده في ذلك الجحيم، كما تفعل بياتريس مع دافني في «الكوميديا». لقد نال هذا النص حب الرومنطيقيين ثم السورياليين كما أسلفنا، واستخدمه بودلير على نطاق واسع في مجموعته «الفراديس الاصطناعية» كما استوحاه جيرار دي نرفال في «الحلم والحياة». أما بالنسبة الى كوينسي فإن كتابته له أتت أشبه بترياق، إذ انه انصرف بعد انجازه الى دراساته العملية. وهو كان في الوقت نفسه رب عائلة، إذ تزوج العام 1817 وأنجب ثمانية أطفال، ثم عمل في الصحافة (وكانت كتابة «الاعترافات» جزءاً من ذلك العمل). ولاحقاً تتالت كتبه مثل «القتل كواحد من الفنون الجميلة» النص الذي انطلق فيه من «ماكبث» و«ثورة التتار». كما كتب في الاقتصاد وكان ذا نزعة اشتراكية تضعه في خانة مريدي العالم الاقتصادي ريكاردو الذي كان واحداً من ملهمي كارل ماركس. ومات توماس دي كوينسي في العام 1859، ليظل - على رغم كل شيء - بالنسبة الى ابناء جلدته الكاتب الغاضب الذي أرّقته أحلامه وكوابيسه، وأنتج واحداً من أهم النصوص في الأدب الرومنطيقي. [email protected]