للمرة الأولى منذ عزل الرئيس السابق الحبيب بورقيبة في 1987 جلس معارضوه ووزير داخليته الطاهر بلخوجة حول مائدة واحدة ليناقشوا في كلام هادئ ثلاثة عقود من الصراع العاصف ليس فقط بين السلطات والمعارضين، وانما أيضاً بين أركان الحكم الذين تنافسوا على خلافة بورقيبة. أتت مناسبة اللقاء الذي دعا إليه أخيراً "منتدى الموقف" صحيفة معارضة من وحي صدور كتاب بلخوجة "ثلاثة عقود من حكم بورقيبة" بالفرنسية و"بورقيبة: سيرة زعيم" الترجمة بالعربية الذي شمل الفترة الممتدة من انتخاب بورقيبة رئيساً في 1957 الى تنحيته بعد ثلاثين سنة من صعوده الى سدة الرئاسة. حضر الحوار مسؤولون ونواب سابقون في مقدمهم وزير الشؤون الاجتماعية السابق محمد الناصر الذي استقال أواخر العام 1977 مع خمسة وزراء آخرين احتجاجاً على قرار حكومة الهادي نويرة خوض معركة كسر عظم مع النقابات لمناسبة الاضراب العام الذي قرره زعيم الاتحاد العام للعمال الحبيب عاشور ونفذ فعلاً بعد أسابيع من استقالة الوزراء. وجلس في القاعة الى جانبهم معارضون سياسيون ونقابيون لاحقتهم اجهزة الأمن وتعرضوا للاعتقال والتعذيب والمحاكمات خلال العقود الثلاثة من حكم بورقيبة. انطلق الحوار مع بلخوجة مع عرض لأهم الاستنتاجات التي توصل اليها في كتابه عن الصراعات التي هزت الحكم وقراءته الخاصة للاخفاقات التي حمل مسؤوليتها لوزير الاقتصاد القوي في الستينات أحمد بن صالح المقيم حالياً في الخارج ومدير جهاز الحزب في السبعينات محمد الصياح الذي قال بلخوجة انه شكل ميليشيات كانت وراء الاحتكاكات مع النقابات وألهبت الصراع الذي أدى الى "الخميس الأسود" في 26 كانون الثاني يناير 1978 بعدما هدد أحد رموز الميليشيات علناً باغتيال عاشور. إلا أن الحضور الذي شكل المعارضون السياسيون غالبيته لم يتوقف طويلاً عند هذه الجوانب وانما أطلق سهامه على بلخوجة بوصفه شغل منصب المدير العام للأمن الوطني عام 1968 لدى شن أول حملة اعتقالات على اليسار الماركسي والقومي في الجامعة، ثم بوصفه وزيراً للداخلية لدى اطلاق حملة ثانية أكبر في النصف الأول من السبعينات أعقبتها محاكمات شملت مئات من اليساريين. وتحدث بلخوجة في كتابه عن نزعته الانفتاحية ومعارضته الصدام مع النقابات مما أدى الى عزله بشكل عاصف في أواخر 1977 ثم مساعيه لتكريس التعددية الإعلامية لدى عودته الى الحكومة وزيراً للإعلام مطلع الثمانينات وهي الفترة التي سماها "الربيع الديموقراطي". إلا أن معارضي بورقيبة السابقين وقفوا في القاعة واحداً بعد الآخر ليطرحوا اسئلة محرجة على الوزير السابق عما اعتبروه قساوة في تعاطيه مع المعارضة. وعاب نائب رئيس رابطة حقوق الانسان صالح الزغيدي الذي اعتقل بوصفه أحد نشطاء اليسار في الستينات وأحد الكوادر النقابية في السبعينات على كتاب بلخوجة كونه قلل من أعداد المعتقلين الذين لاحقتهم أجهزة الأمن في عهده. وخلافاً للأعداد التي ذكرها الوزير السابق، أكد الزغيدي أنها بلغت المئات في 1968 ووصلت الى ألف معتقل في 1973، فيما تحدث بلخوجة عن بضع عشرات. كذلك شكك كل من محمد الكيلاني ومنجي اللوز، وهما من قياديي اليسار المعارض لبورقيبة بما أكده وزير الداخلية السابق في شأن انجازه تطويراً شاملاً لأجهزة الأمن وادماج عناصر من خريجي الجامعات في كوادرها. وبعدما تصاعدت اللهجة الانتقادية رافعة حرارة الجدل أبدى بلخوجة تفهمه للمؤاخذات والانتقادات، وقال ان هذا الحوار الأول من نوعه ينبغي أن يكون "بداية لحوار حول خمسين سنة من تاريخ تونس الحديث من دون الاقتصار على العقود الثلاثة التي حكم خلالها بورقيبة". وأشار الى أن "أعمال القمع التي حدثت في تونس لم تصل الى مستوى الاعدامات واختفاء المعارضين والتنكيل الذي عرفته بلدان أخرى في الفترة نفسها". ورأى أن طبيعة نظام الحكم في الستينات والسبعينات في تونس كما في بلدان العالم الثالث الأخرى لم تكن من النوع الذي يجيز تحميل المسؤولية الى شخص واحد، فلا يمكن للوزير أياً كان موقعه أن يكون مسؤولاً عن كل شيء وانما كان نظام الحكم ذو الطابع المتشابك والمعقد هو المسؤول عما حدث من تجاوزات وأخطاء".