هناك من يسأل: هل للعرب اليوم فن موسيقي ناطق بلسانهم جميعاً؟ هل هناك حقاً ما يسمى "موسيقى عربية"؟ للإجابة على هذا لا بدّ من إعادة قراءة هذه الظاهرة تاريخياً وفنياً. تنقسم المنطقة العربية كلها الى ثلاث دوائر ثقافية - فنية: المشرق، الوسط، المغرب. ونعني بالوسط دائرة مصر والسودان والتي تتصدرها موسيقى مصر. واجهة المشرق في الموسيقى فهي العراق وسورية، أما عواصم موسيقى المغرب فهي فاس ومكناس في المغرب والجزائر وتلمسان في الجزائر. ماذا تملك تلك المراكز الخمسة: العراق، سورية، مصر، الجزائر، المغرب كي تصبح بؤرة الثقافة الموسيقية للعربعموماً؟ ما الذي يجعل منها عواصم الموسيقى العربية المعاصرة؟ إنها مواقع استيعاب الخبرة الفنية العامة لدى العرب، هي أكثر المناطق تأثراً بالجميع. نعم هي أكثر من يأخذ من عموم العرب، إنها أكثر من يستطيع التعبير عن مجمل العرب. "أنك لا تستطيع تمثيل الجميع إلا بفهم الجميع"، أليس هذا صحيحاً؟ كان كل قطر من تلك المراكز الخمسة بمثابة منطقة تأثر كبيرة بالأقطار المجاورة له، بل كان كل قطر منها بمثابة مصفاة كبيرة لخبرات عدة من البلدان الأخرى المحيطة به. هكذا كانت الموسيقى العراقية تضم بين جوانحها كثيراً من فنون الأردن وفلسطين والخليج. لذلك استطاعت أن تعبّر عنها في تطورها الخاص، استطاعت أن تكون بؤرة تجمع وانصهار لخبرات كبيرة. بل إن فنون غناء "الميجانا" و"العتابا" العراقية هي ذاتها فنون لبنانية داخلية تعيش في ضياع لبنان ومع فلاحيها. كذلك كانت موسيقى سورية بما تحمله من أصول فلسطينية وأردنية ولبنانية مركزاً مهماً لتفاعل الخبرات وطرق التعبيرخصوصاً مدينة حلب صاحبة أهم منجزات الموسيقى في منطقة الشام، أعني فن القدود الشهير. كانت موسيقى كل قطر تنمو بقدر اتساع صدره لخبرات الاشقاء. ذلك لا ينفي ما للأقطار الأخرى كالسودان من قوة فنية مستقلة. ولا شك انّ في السودان فنوناً محلية بالغة الأهمية مثل ما يدعى هناك "غناء الحقيبة" كما في الخليج من "غناء الصوت" وفي اليمن من "غناء الصنعاني" وفي ليبيا من "إنشاد المألوف". وفي قطر من بلادنا الرحيبة تتراكم خبرات فنية ثرية ومهمة. لكن قلة من أقطارنا الأقطار الخمسة استطاعت دون غيرها الاستفادة من هذه الثروات المحلية ثروات كل قطر عربي على حدة، واستطاعت الخروج من حدودها هي نحو عواصم الآخرين. وحكمة التاريخ هنا تقول: "إن من يأخذ يستطيع العطاء"، ومن "يأخذ أكثر يعطي أكثر بدوره". ولننظر الى موسيقى مصر بما لها من رواج وذيوع وكانا الأكبر على امتداد قرن من الزمان من الثلث الأخير للقرن الماضي وحتى حوالى 1965. سيبدو الأمر كما لو أن مصر وهبت وما تزال تهب فنها للأقطار العربية من دون مقابل وتعويض وكأنها علاقة ايجابية من طرف واحد.. والواقع يدحض هذا الاعتقاد تماماً. لقد أخذت مصر فن الموشح - أكثر فنونها التقليدية أهمية على الإطلاق - من مدن المغرب: فاس ومكناس ومراكش وتحديداً على يد المؤلف الموسيقي المصري ابن سناء الملك، صاحب كتاب "دار الطراز" والذي شرع في القرن الثالث عشر يأخذ من نماذج الموشحات المغربية ويكيل على ميزانها ونسقها ويصوغ نظائر مصرية لها. ويشرح للمصريين في كتابه كيفية تأليفها وأسماء أجزائها وسرعتها وايقاعاتها، فتعلموها ونقلوا عنها كان فن الموشح أهم منبع استقت منه مصر وشكلت موسيقاها المعاصرة. ولا يمكن تصور الموسيقى المصرية مندون صيغة الموشح، تلك الصيغة التي أذهلت أقطار أوروبا ذاتها في العصور الوسطى. وعداالموشح، ما هي أنواع الموسيقى المصرية المهمة؟ لا شك أن الموال هو أحد تلك الفنون التي برعت فيها مصر، بل إن أكثر غناء الفلاح المصري - في كل مدن ونواحي مصر - إنما هو من نوع الموال، ولا تخلو قرية مصرية منه، بل ويعد الموال معيار قياس الجودة ومعرفة مدى تمكن ومستوى أداء المطرب الشعبي المصري. وفن الموال مهم أيضاً في موسيقى التخت في المدن المصرية وقد تمرس به محمد عبدالوهاب صاحب الموال الشهير "في البحر لم فتكم".. فهو في مصر فن شعبي وفن حضري في آن واحد. إنه من ركائز الموسيقى المصرية. وقد لا يتصور أحد أنه فن نشأ وتبلور تماماً في العراق زمن هارون الرشيد! أي منذ حوالى ألف عام. والقصيد الغنائي... هل في مصر ما هو أهم منه؟ أننا نذكر القصائد من نوع "مصر التي في خاطري" ومن نوع "مصر تتحدث عن نفسها" من أعمال السنباطي التي لا تمحى، كما نتذكر قصائد عبدالوهاب الجليلة مثل "الكرنك" و"الجندول" و"كليوباترا" و"ليالي الشرق" و"جبل التوبات" و"دمشق"، وما أكثر قصائد مصر المعاصرة ثم نفكر ملياً: من أين أتى فن القصيد؟ كيف ظهر ومتى ومن هم أوائل رواده؟ إن كتب التاريخ تعرّف عن مولد الموال والموشح وزمنهما ومنبعهما وكل شيء عن ميلاد الدور والطقطوقة والمسرح الغنائي.. ولا شيء عن فن القصيد في الموسيقى العربية. والمرجح لدينا أن نشأته الأولى تعود إلى سورية الأموية ثم إلى العراق العباسي. ففي تلك البقاع كان يتردد على طرق قصور الخلفاء غناء قديم لهم، صدح به العبيد والجواري الاصفهاني في الأغاني وقد سمي هذا "فن الصوت" وهو أصل فن الصوت الحالي في الجزيرة والخليج. وكان الصوت قائماً حينذاك على تلحين جزء بيتين مثلاً من قصيد مهم. وكان كل منشد يأتي بصوت مغاير فتتوالى كثرة من الأصوات الأغاني الصغيرة لتتشكل سهرة القصر الممتدة. وتراكمت أجزاء القصائد الملحنة الأصوات ولا بدّ أن يكون قد دفعت إلى نشأة "القصيد الغنائي" المكتمل. وليس لفن "القصيد" المعاصر منبع آخر في الأنواع الموسيقية العربية، وليس له موقع آخر سوى إنشاد الفصحى في قصور دمشقوبغداد. مواويل مصر إذاً عراقية المولد وموشحاتها مغربية وقصائدها أموية - عباسية .. ماذا تبقى من فنون التراث الموسيقي المصري؟ لا شيء، فالتراث المصري الموروث عن العصور الوسطى مكون من فنون ثلاثة: موال / موشح / قصيد. وهي الأعمدة القائم عليها فن مصر المعاصر والحديث. فإرث الأجداد إذاً عربي مختلط. ولا شك أن فرق إحياء التراث القائمة في مصر الآن كفرقة سليم سحاب وفرقة أم كلثوم إنما تقدم تلك الفنون الثلاثة وتضيف إليها ثلاثة فنون غنائية أخرى هي: الدور/ الطقطوقة / النشيد. إنها الفنون الثلاثة المضافة من إبداع القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، أي أنها انتاج مصري محلي خاص. والحقيقة أن مصر لم تضف تلك الأنواع إلا في تاريخها المعاصر، وكان ذلك واقعاً في حقبة 1850 - 1960 على وجه التقريب. وأضافت مصر إلى حصيلة النمو فناً مهماً هو المسرح الغنائي وعماده فن الحوار والإنشاد ويقوم بهما أكثر من مطرب معاً. لقد تمكنت مصر من إضافة أربعة أنواع: الدور / الطقطوقة / النشيد / ثم المسرح الغنائي، لأنها القطر العربي الذي استطاع استيعاب الماضي العربي: الموشح / الموال / القصيد، واستخلاص كل المفيد منه. كانت موهبة مصر الموسيقية المتميزة كامنة في القدرة على التعلم الواسع وحساسية التأثر الخصبة، فهل كان لها هذا التفرد لولا فنون أشقائها؟ قد يبدو هذا الربط بين الماضي والحاضر في فن مصر نوعاً من اختلاق الحجج للدلالة على وحدة فنون العرب. لكن الأمر على غير ذلك تماماً، إذ إنبثقت فنون مصر المعاصرة تلك من قلب فنونها القديمة ومن صلب التراث، أي من: الموال / الموشح / القصيد.. وللأسف لا تدرس القوالب الجديدة الدور / الطقطوقة/ النشيد / المسرح بوصفها جزءاً من القديم واستمراراً للتراث وإنما يدرس كل قالب موسيقي بحد ذاته - مستقلاً من دون أن يربط بينه وبين غيره من القوالب الموسيقية. يدرس مقتطعاً من سياقه ومن التاريخ الموسيقي، تدرس فقراته.. أما علاقات القوالب بوصفها كلها قطعاً من ثقافة موسيقية واحدة.. فإن هذا جانب غائب تماماً. وبديهي أن العالم كله يدور في شبكة في تبادل المؤثرات الفنية والثقافية، لكنه مع ذلك ينقسم إلى دوائر حضارية مستقلة نوعاً ما.. ودائرة العرب ككل تجد نوعاً من التماس مع دوائر الشرق عموماً، وليس هناك بلد يحيا منفرداً من دون انتماء إلى دائرة ثقافية واسعة - محيطة جغرافياً به. والشرط التاريخي لانخراط بلدان عدة في شبكة فنية واحدة هو المشاركة الجماعية تلك الدول في القواعد الأساسية المستخدمة، أي اقتسامها طرق البناء وأساليب التأليف الموسيقي العامة. لهذا فالموال شائع في معظم بلداننا، ولكنه يتوقف بمجرد انتهاء الرقعة العربية ناحية إيران شرقاً أم ناحية المغرب غرباً. فالموال هنا كأنه بطاقة للهوية العربية. كذلك التقاسيم والسير الشعبية وبعض اساليب التأليف الموسيقي والإيقاعات. داخل مثل هذه الدوائر يجري التبادل على نحو أسرع وأخصب، ولكن التبادل جائز بين الدوائر الكبيرة وبعضها الآخر - العرب وأوروبا مثلا - غير أن خطر هذا التبادل لا شك كبير وخصوصاً إذا ما كان جارياً دون وعي به ويقظة له وحساب لنتائجه. لقد أخذت مصر من دائرة فنية آسيوية - من إيرانوتركيا - الكثير حقاً، مثلما أخذ العراق من ايران في القدر نفسه أو أكثر. وكانت القوالب الموسيقية التركية تجري في شوارع القاهرة القديمة القرن 18 - 19 حتى أفقنا في مطلع القرن العشرين لنجد حفلات الموسيقى المصرية وهي تضم الأنواع التركية الستة: لونغا / دولاب / بشرف / سماعي / مازوركا / بولكا تقدمها فرق معظم اعضائها من الأتراك بل وظهرت بعض من هذه القوالب طرق التأليف في أقطار عربية أخرى. وعلى الرغم من ذلك فإن كل هذه القوالب لم تتمكن من الاستطان.. إذ لفظتها الحياة الموسيقية العربية بعد وقت قصير من وفودها. إن الكثيرين من مؤلفي الموسيقى المصرية لم يقتربوا من تلك القوالب الموسيقية. وسيد درويش - أكبر رجال الموسيقى المصرية المعاصرة - لم يترك قالباً واحداً من تلك القوالب.. ولم نشاهد مازوركا أو بولكا مصرية واحدة أي أن المصريين أفادواا شأن العرب الآخرين من قوالب تركيا بعض الإفادة ثم غادروها.. لم تكن هناك حاجة لضم قوالب تركيا وكان التعرف عليها - كما تقدمها فرق الاتراك القائمة في البلدان العربية - كافيا لفهم دروسها وعبرها. وسبب مقاطعة تلك القوالب هو أنها تخضع في اساليبها التركية لقوانين مغايرة ولدائرة فنية مختلفة - غير عربية. لذلك لم يستقر في مصر واحد من تلك القوالب كما استقر الموال والقصيد والموشح. موسيقى وآلات وكانت البلاد العربية تأخذ وتعطي الآلات الموسيقية المختلفة، فتأخذ مصر بآلة موسيقية عراقية أو مغربية والعكس كذلك. أما الآلات غير العربية فكانت وإن وفدت الى العرب وأقامت زمنا، غير مستقرة. ولم يكن العرب ليأخذوا بالآلات الاجنبية إلا لضرورات قصوى. وكما غادرت آلة "الطنبور" الإيرانيةالعراق وسورية في العصور الوسطى خرجت من مصر في القرن الماضي وم دون عودة الات تركية كانت على وشك الاستيطان، مثل القانون الصغير والبزق. بل أن قيام الموسيقى المصرية المعاصرة القرن 19 كان رهناً باستبدال آلات التخت وخلق "التخت المصري" من قلب التخت "المصري - تركي" القديم، أي تمصير الآلات الموسيقية. وأثناء رحلة الآلات الموسيقية العربية ومنذ القرن السابع كان العود قاسماً مشتركاً بين الجميع. واليوم يضع الأردني ألحانه على العود وكذا السوري والمصري واليمني والليبي. وإلى جانب العود تصاحب الأردني آلة موسيقية عربية أخرى هي الدف أو الرق تماما كالمصري والسوري والفلسطيني. وهو ما يحدث مثيله عندما يضع الأرجنتيني أو البرازيلي أو البرتغالي كل أقطار اميركا اللاتينية ألحانهم صحبة الغيتار. والعود مثل الرق والدف طاف البلاد العربية واستقر بها تماماً كالموال والقصيد والموشح، فكان أحد علامات تلك الوحدة الفنية الواسعة. في مثل هذا الترابط يسهل التأثير والتأثر، وبسبب ذلك التشابه ذاعت الموسيقى المصرية المعاصرة واحتضنها الجيران كمن يحتضن ابنة عائدة من سفر. وكل موسيقات العرب قائمة على منظومتين اثنتين: منظومة المقامات ومنظومة الايقاعات - أي اللحن والإيقاع. وإن كنا نتقاسم مع الشرق كله تلك الخصائص، إلا أن مقامات العرب وإيقاعاتهم لها داخلياً ما يربط بينها ويميزها عن غيرها من مقامات أوايقاعات الشرق. في نطاق الموسيقى الشعبية عند العرب طافت السير الشعبية بلداناً كثيرة، حتى أن تشكل سيرة من نوع "السيرة الهلالية" إنما ينتمي إلى بلدان عربية عدة شاركت كلها في خلق تلك السيرة. وقصاص تلك السير العربية يقوم بالمهمة الفنية نفسها سواء كان يجول في سوريا أم في مصر أم في ليبيا، لذا فاسمه في مصر "الشاعر" أو في سورية "الحكواتي" أما في ليبيا ف"القاص" إنما يحكي أجزاء متشابهة من قصة الوحدة الفنية لبلادنا. هذا الشاعر في كل بلادنا يمسك بآلة موسيقية واحدة هي الرباب في مصر وأنواع منها في البلاد الأخرى ويقص بمفرده إنشاداً فردياً حكاية طويلة واحدة - حكاية عربية تجمع بين مناطق مختلفة من بلاد عربية - حكاية جرى جزء منها في بغداد واستكمل في تونس أو الجزائر، تماماً كحكايات ألف ليلة وليلة. وربما يقول البعض باختلاف الموسيقى الجزائرية عن السورية أو المصرية عن الخليجية في بعض الجوانب كظهور إيقاع ما في بلد دون الآخر، لكن هذا البعض لا يدرك أن القطر العربي عند توحده بغيره تظل لديه عناصر فنية داخلية مستقلة، وأن الوحدة لا تعني ذوبان كل العناصر الفنية واختفاء التنوع. كانت النهضة الموسيقية لأي قطر عربي كمصر تستمد أصولها من الخبرات الموسيقية العربية العامة. وفن عراقي محلي - لا تعرفه البلاد العربية الأخرى - مثل غناء "البستة" هو في الواقع وليد فن الموشح الذي جاء من الأندلس وبلاد المغرب. وفن القدود الحلبية المميز سورية وحدها إنما هو نوع آخر من الموشح كما يعلم الموسيقيون كلهم، إنه الموشح المعروف في مصر ولكنه موشحاً على الطريقة السورية. وبلاد المغرب الأربعة تعرف كلها فن "النوبة" الأندلسية وهو أهم فنون الموسيقى في البلاد الأربعة. نجد من يسأل: هل لعرب اليوم فن موسيقي ناطق بلسانهم جميعا وهل هناك حقا ما يُدعى "موسيقى عربية"؟ لكننا لا نجد من يسأل: كيف لا تتفجر نهضة موسيقية عربية عملاقة ونحن نملك قوة لها كل هذا الامتداد على الأرض؟ * استاذ في اكاديمية الفنون - القاهر