تتطلب التغيرات والاكتشافات السريعة والضخمة التي تحدث الآن في مختلف مجالات العلم والمعرفة أن يراجع المهتمون بأمور التعليم الجامعي في كل أنحاء العالم السياسات العامة التي تحكم هذا التعليم وتوجهه وأن يعيدوا النظر في الخطط والأهداف التي يراد تحقيقها وتنفيذها في ضوء هذه التغيرات التي تكاد تمثل انكساراً حاداً في مسيرة الحضارة الإنسانية وتبشر بقيام عالم جديد تماماً تحكمه اعتبارات تختلف اختلافاً جذرياً عن كل ما عرفه المجتمع الإنساني حتى الآن، سواء من حيث أسلوب الحياة أو مجالات العمل أو أنماط العلاقات بين الأفراد والدول او أنساق القيم الاجتماعية والإنسانية، ما يستدعي اجتهاد أجيال جديدة من البشر تستطيع التعامل مع الظروف والأوضاع المعقدة التي سوف تنشأ في المستقبل كنتيجة طبيعية لتلك التغيرات والاكتشافات. ولقد اهتم كثير من دول العالم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين بمواجهة سياساتها التعليمية الجامعية وصدرت في ذلك تقارير ودراسات متلاحقة حول تقويم تلك السياسات والكشف عن الجوانب السلبية التي تعاني منها العملية التعليمية وتقترح الحلول المناسبة للقضاء على تلك السلبيات وتحديد الخطوط العريضة لما ينبغي أن تكون عليه جامعات الغد ومعاهده العليا. والذين يتابعون ما ينشره ملحق جريدة "التايمز" عن التعليم العالي حول هذه السياسات يدركون مدى انشغال حكومات وجامعات الدول المتقدمة بهذه المسألة الحيوية. كذلك اهتم بعض الدول العربية بالموضوع/ المشكلة وعقدت فعلاً ندوات ومؤتمرات تناقش وضع الجامعات إزاء هذه التغيرات، كما حدث مثلاً في الندوة الفكرية الرابعة لرؤساء ومديري الجامعات في الدول الاعضاء في مكتب التربية العربي لدول الخليج عن "دور الجامعات في مواجهة التحديات المعاصرة" والتي عقدت في الدوحة في تشرين الأول أكتوبر 1989، والمؤتمر القومي للتعليم الجامعي الذي عقد أخيراً لمدة يومين في القاهرة. وكما هي العادة فإن كل هذه الندوات والمؤتمرات كانت تنتهي بإصدار عدد كبير جداً من التوصيات التي تعبر عن الآمال العريضة والتي لو أمكن تنفيذ جزء ولو يسيراً للغاية منها لحققت الجامعات العربية قفزة هائلة للخروج من حال الجمود والركود والتخلف التي يعاني منها التعليم الجامعي والعالي في الوطن العربي في الوقت الراهن، وأمكن بالتالي إعداد الإنسان العربي لمواجهة تحديات المستقبل والتعامل معها بطريقة ايجابية مؤثرة. ويواجه معظم جامعات العالم الثالث بما في ذلك الجامعات العربية كثيراً من المشاكل الناجمة الى حد كبير من شدة الإقبال على التعليم الجامعي نتيجة للتطورات الاجتماعية التي طرأت في السنوات الأخيرة على معظم الدول العربية واعتبار التعليم الجامعي مطلباً شخصياً وليس فقط مطلباً قومياً. فهو احد المتطلبات الاساسية للحصول على عمل محترم في كثير من الاحيان كما أنه احد الركائز المهمة في تحديد مكانة العرب في المجتمع الحديث بعد أن تراجع دور المقومات القديمة التي كانت تعطي الشخص منزلته في المجتمع مثل الانتماء العائلي والمستوى الاقتصادي وما الى ذلك. وساعد على ذلك الإقبال الشديد تطبيق مبدأ مجانية التعليم الجامعي على الاقل في الجامعات الحكومية التي تملكها الدولة. وبقدر ما كان لهذه السياسة من آثار ايجابية تتمثل في إتاحة فرصة التعليم أمام الكثيرين ممن كانت الاوضاع القديمة تقف حائلاً دون التحاقهم بالجامعات وما أتاحه ذلك الإقبال من توسيع قاعدة اصحاب الكفاءات العليا والقادرين على إدارة شؤون المجتمع، بقدر ما كان لهذه السياسة ذاتها سلبيات ظهرت بشكل واضح في عجز معظم تلك الجامعات عن تقديم خدمة تعليمية رفيعة المستوى نظراً لضعف الموارد المالية بالمقارنة بأعداد الطلاب. ولا مفر من التسليم بأن جامعات الغد في كل أنحاء العالم ستكون جامعات الأعداد الكبيرة بكل معاني الكلمة وان ذلك سوف يفرض عليها التزامات ثقيلة قد تعجز جامعات العالم الثالث عموماً ومعظم الجامعات العربية عن الاضطلاع بها بالكفاءة المطلوبة التي تساعدها على متابعة التقدم السريع في مختلف مجالات المعرفة وبخاصة في التخصصات العملية الدقيقة، والتحولات الهائلة في وسائل التعليم الحديثة المعقدة ونبذ الاساليب التقليدية التي تعتمد على الكتاب الواحد المقرر وعلى التلقين والحفظ. وسوف تصطدم جامعات العالم الثالث بالسياسات الطموحة لبعض الجامعات الكبرى المتقدمة في الغرب والتي تهدف الى نشر التعليم الجامعي على أوسع نطاق ممكن في ما يعرف باسم التعليم المستمر والتعليم المفتوح والتعليم مدى الحياة وذلك بالاعتماد على شبكات الانترنت التي تنقل البرامج والمقررات الى الطلاب في كل أنحاء العالم بدلاً من ان يتجشموا هم مشقة الانتقال ونفقات الإقامة في مقار تلك الجامعات. وتمثل هذه السياسات بغير شك تهديداً خطيراً لكيان الجامعات الوطنية في العالم الثالث إن لم تعمل على تطوير نفسها بالسرعة اللازمة. ويحتاج مضمون العملية التعليمية في العالم الثالث، بما فيه العالم العربي، الى مراجعة دقيقة وشاملة في ضوء متطلبات المستقبل والمستجدات التكنولوجية والانجازات العلمية المتلاحقة. وقدر كبير من المعلومات والنظريات التي تقدمها جامعات العالم الثالث لطلابها حتى في مجال الإنسانية تجاوزها الزمن منذ وقت طويل، وظهرت في العقود الأخيرة تخصصات عملية جديدة تؤلف جزءاً من مضمون العملية التعليمية في جامعات الدول المتقدمة كما هو الحال مثلاً بالنسبة الى علوم الفضاء والمعلومات والتكنولوجيا الحيوية وغيرها، بينما تفتقر جامعاتنا الى المعامل والمختبرات والاجهزة الاساسية اللازمة، كما ينقص الكثير من اعضاء هيئات التدريس الاعداد الاكاديمي، بل والتنمية الذهنية لتقبل هذه المستجدات ونقلها بكفاءة الى الطلاب الذين ينظرون، على اية حال، الى التعليم الجامعي كما وكأنه مجرد امتداد للتعليم الثانوي وأن مهمته الاولى هي اعدادهم لممارسة مهنة او شغل وظيفة معينة بعد التخرج، بينما تأتي مسألة التكوين العقلي والثقافي وتنمية القدرات والمهارات الذهنية في المرتبة الثانية من اهتمامهم، وأكاد اقول من اهتمام الجامعات ذاتها، وهذا التغيير خطير في فلسفة التعليم الجامعي. فلقد كانت الجامعة - او هذا هو المفروض على الأقل - مؤسسة تعمل على توفير وتدعيم التوازن بين التكوين الفكري والاعداد العملي او المهني، ولكن الظاهر ان هذه الصورة المثالية، بدأت تشحب وتتوارى بعد هذه الزيادة الهائلة في اعداد الطلاب في معظم الجامعات وما ترتب على ذلك من تدهور مستوى التعليم ومن انقطاع الصلة المباشرة الوثيقة التي كانت تربط الاستاذ بالطلاب. والواقع ان الاستاذ الجامعي لم يعد يتمتع بالمكانة نفسها والتقدير نفسه اللذين كانت تحظى بهما الاجيال السابقة من الاساتذة الرواد، ففي عهد قريب كان كبار الاستاذة والعمداء في مصر - مثلاً - يتمتعون بشخصيات كاريزمية فذة لها مكانتها في المجتمع وتأثيرها في الرأي العام، بل وكان بعضهم يفرض وجهة نظره ومواقفه على الدولة ذاتها، وهي امور لم يعد لها وجود في ظل النظم السياسية السائدة في العالم العربي والعالم الثالث وفي ظل احكام سلطة الدولة على الجامعات. ولكن هذا كله يجب الا يجعلنا ننسي ان السياسة التعليمية ينبغي ان تأخذ في الاعتبار احتياجات ومطالب الاجيال الناشئة التي سوف تتأثر بهذه السياسة وبمضمون العملية التعليمية وبالاساليب والوسائل المستخدمة في نقل ذلك المضمون وتوصيله الى الاذهان والافهام. فالشباب هم اصحاب المصلحة الحقيقية المباشرة من التعليم، ولقد كان ذلك احد المبادئ التي قامت عليها ثورة الطلاب في اوروبا واميركا في الستينات من القرن الماضي القرن العشرين. فقد قامت الحركة الطلابية من منطلق ان الجامعات انشئت من اجل الطلاب الذين ينتمون الى ازمنة وظروف واوضاع ومتطلبات تختلف عن تلك التي عرفها الاساتذة والمخططون، وان حياة الطلاب هي التي سوف تتأثر بالعملية التعليمية، ولذا فهم احق من غيرهم في رسم السياسة التعليمية وتحديد اهدافها ووضع المناهج والمقررات، بل اختيار الاساتذة وابداء الرأي في اسلوب إدارة الجامعة. وقد يكون لهذا المنطق بعض الوجاهة، ولكن يبدو أن الطلاب تجاوزوا في مطالبهم كل الحدود بحيث اصبحت الحركة تمثل تهديداً للعملية التعليمية كلها، وفقدت الحركة بالتدريج قوتها الدافعة وانحسرت موجة التمرد العلمي العنيف الثائر وإن كان هناك قدر كبير من التذمر بين الخريجين وبخاصة في العالم الثالث الفقير المتخلف وفي كثير من الدول العربية حول الانفصال الرهيب القائم في الوقت الحالي بين ما سيلقاه الطلاب في الجامعات وبين متطلبات الحياة والمجتمع وحول، ندرة او حتى انعدام، فرص العمل، وبالتالي حول المستقبل غير المضمون وغير الواضح الذي يبدو في الافق نتيجة سوء اعدادهم خلال الدراسة الجامعية ومستواها المتردي. والتحدي الحقيقي الذي يواجه الجامعات في العالم العربي وكل جامعات العالم الثالث هو العمل على توفير نوعية قادرة وفاعلة من الأساتذة والطلاب والمقررات السياسية واساليب التعليم عسى ان يبدو المستقبل اكثر وضوحاً وباعثاً على الامل في نفوس الشباب. * انثروبولوجي مصري.