بحنكة الأكاديمي العريق يحصن أحمد بيضون كتابه الجديد "الجمهورية المتقطعة" دار النهار، 1999 من نقاد قرأوا سابقاً غالبية المقالات الواردة فيه، وقد يعيبوا على المؤلف نشر "ما نشر سابقاً" واستفاد منه الباحثون. فمشكلة المؤلف مع قرائه الكثر أن له باعاً طويلة في كتابة تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، ونشر عدة إسهامات متميزة في مختلف جوانب الصيغة اللبنانية، وأن مقالاته مقروءة على نطاق واسع. يضاف إلى ذلك أن غالبية الكتب الجماعية الرصينة التي تناولت تطور المجتمع اللبناني منذ اتفاق الطائف وطوال العقد الأخير من القرن العشرين، ضمت دراسة موثقة ومهمة لأحمد بيضون، وبعضها يتم تداول على نطاق واسع في الأوساط الثقافية الناطقة بالعربية أو بالفرنسية والإنكليزية. لكن نشر المقالات في وثائق المؤتمرات العلمية لا يضعها في متناول عدد كبير من الباحثين، ولا تؤدي دورها الثقافي كما لو جمعت بين دفتي كتاب يضيف إلى المنشور ما لم ينشر بعد، ومنها ما كتب أصلاً بلغات غير العربية، وطبع خارج لبنان، فيستحسن ترجمته ونشره بالعربية. وهذه الأسباب مجتمعة مبرر كاف لكي يجمع الباحث شتات مقالات علمية متقاربة في موضوعها، مع إعادة نظر في بعض الثغرات الواردة فيها، ونشر ما تأخر صدوره من مقالات أعدت للنشر ولم تبصر النور لأسباب خارجة عن إرادة الباحث. ونظراً لخبرة أحمد بيضون المعمقة في مجال نقد الكتب التاريخية استعرض، في الصفحات الأولى، المشكلات الناجمة عن جمع مقالات متفرقة منشورة سابقاً، وإعادة نشرها في كتاب واحد. فعناوين مقالات منشورة لا يمكن أن تتطابق مع عناوين الفصول لأي كتاب جديد. كما أن التوثيق الجزئي يختلف عن التوثيق الشمولي الذي يحصن الكتاب من تكرار المراجع في كثير من الفصول. وما ينطبق على الإسناد ينطبق أيضاً على الفرضيات والاستنتاجات وتحصين الكتاب من تكرارهما المحتم في المقلات. لذلك انبرى المؤلف للرد على النقد المتوقع بشرح مفصل لإيجابيات النشر الجامع من دون إغفال السلبيات الناتجة عنه. فكتب موضحاً في مقدمته: "جليّ، أن هذه المقالات لم توضع، في الأصل لتستوي كتاباً. فإنما كان بعضها فصولاً أعدّ كل منها لكتاب جماعي. وكان بعض آخر منها أوراقاً قدمت في ندوات انعقدت على مدى السنوات المنصرمة، في لبنان أو في أقطار أخرى منشورة على اكثر من قارة... والحاصل أن أوضاع هذه المقالات متباينة جداً، على الإجمال، من حيث النشر أو عدمه ومن حيث وسيلته وموقعه". لكنه، وبعد أن أعاد النظر فيها، وتجنب الكثير من التكرار، وتعمد نوعاً من التكامل في ترتيبها ضمن محاور، نظر مجدداً إلى عمله فأعجبه، ووطد العزم على الدفاع عنه بقوة: "فالقول بأن النصوص التي تجمعت لم توضع، في الأصل، لتستوي كتاباً واحداً، إنما هو قول يجب تقييده بكثير من التحفظ، وإن يكن يبقى له نصيب من الصحة مؤكد. فالواقع أن مبدأ التكامل قد رعي، من البدء، وتعززت رعايته مع تعاقب التكليفات، مثلما رعي تنوع المناسبات وإلزامات الظروف . وكان احتمال الجمع اللاحق في كتاب واحد ماثلاً في الخاطر، وقد زاده مثولاً وجلاه تجارب سابقة عدة. فلا يصح بحال، إذاً، أن تعتبر النصوص التي نحن بصددها مجرد "مقالات متفرقة". كما أن هذه المقالات نفسها إنما تكون مجتمعة غيرها متفرقة". فالباحث محق في وصف إعادة النشر بأنها إيجابية لأن مقولات الكتاب تتناول مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ لبنان المعاصر، مايبرر هذه المقالات المتفرقة في كتاب واحد يسهل النقاش حول مضمونها. وهو محق كذلك في توصيف كتابه على الشكل التالي: "خلاصة القول أن النوع الذي تنتمي إليه هذه المحاولات إنما هو النوع الاجتماعي - السياسي، وهو ما يأذن لها بأن تقتفي تجليات الفعل السياسي، لا في الدائرة السياسية وحدها، بل في دوائر أخرى، أيضاً، يحتاج فيها تتبع السياسة إلى مزيد من إمعان النظر، على ما هي الحال في التربية وفي الثقافة مثلاً. عليه فإن هذا الكتاب تأليف اجتماعي سياسي مجاله، في الزمن، سنوات ما بعد الحرب في لبنان، ومداره الأوسع صيغة ما يسمى "العيش المشترك"، بما هي صيغة لظهور المجتمع للبنان الذي تعرف، وما آلت إليه هذه الصيغة، فعلاً، في المدة المشار إليها". هكذا اتخذت المقالات طريقها للنشر في كتاب جديد وتم توزيعها مجدداً ضمن المحاور التالية: 1- المحور الأول : نظام الحرب ونظام ما بعد الحرب، وفيه ست دراسات. 2- المحور الثاني: تمثيل التمثيل، وفيه ثلاث دراسات. 3- المحور الثالث: ما ورائيات الإعمار، وفيه دراسة واحدة. 4- المحور الرابع: عهود الاحتلال، وفيه أربع دراسات. 5- المحور الخامس: دروس التعليم، وفيه أربع دراسات. 6- المحور السادس: المثقفون حيث هم، وفيه أربع دراسات. 7- المحور السابع بمثابة الخاتمة، وفيه دراسة لهوية اللبنانيين بعنوان: "سعي في إجمال الإشكال". من نافل القول إن كل محور من محاور النظام السياسي، والتمثيل البرلماني، والإعمار، والاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وبقاعه الغربي، ومشكلات التعليم، ودور المثقفين، وهوية اللبنانيين، وهي القضايا المحورية الواردة في الكتاب يحتاج من المؤلف إلى قليل أو كثير من الجهد والتوسع ليصبح موضوعاً لكتاب مستقل. إلا أن الباحث آثر جمع تلك الموضوعات بهذه الطريقة لأسباب موضوعية أبرزها أن تتاح لكثير من الباحثين فرصة الاستفادة منها مجموعة بين دفتي كتاب واحد. ولما كانت تلك المقالات قد أعدت منذ سنوات قليلة للمشاركة في ندوات أو مؤتمرات علمية، أو كتب جماعية، أي أن المؤلف قد بذل في إعدادها جهداً علمياً كافياً، فإنه لم ير ضرورة لإعادة النظر فيها حين نشرها مجدداً، وهو ما زال على قناعة تامة بالمقولات الواردة فيها، وبالاستنتاجات التي توصل إليها. بقي أن نشير إلى أن السنوات العشر الماضية التي أعقبت اتفاق الطائف شكلت حقبة ملتبسة ناقش من خلالها المؤلف قضايا محورية في تاريخ لبنان العاصر، فكانت ثمرة ذلك النقاش هذا الكتاب الغني جداً بتنوع موضوعاته. فكيف تبلورت صيغة العنوان "الجمهورية المتقطعة". وما هي أسانيده في تبرير تقطعها؟ اعتمد بيضون الخطاب الأكثر وضوحاً وشفافية لإبراز مكامن التقطع في الجمهورية اللبنانية العتيدة. يقول في ذلك: "نراها إذاً جمهورية متقطعة، يصح هذا الوصف فيها من كل وجه وعلى كل صعيد... هذه الجمهورية متقطعة في الزمان... ثم إن جمهوريتنا متقطعة في المكان... والجمهورية متقطعة، على مستوى موضوعها... والجمهورية متقطعة، على مستوى ذاتها، أخيراً. فنحن نرى للذوات الداخلة في تكوينها، وهي ذوات فاعلة في مجال الجمهورية، أيضاً، وما هي هامشية ولا أفعالها عرضية، ما يزين لنا أن أليق الأوضاع لهذه البلاد قد يكون وضع المملكة أو وضع الإمارة. فهذا الوضع - لا الوضع الجمهوري - هو المجانس للعائلات والطوائف المحتفظة عندنا بقيافة السياسة، تأبى اطراحها مهما يكن الثمن. على أن الإمارة أو المملكة ستأتي متقطعة أيضاً لو وقع عليها اختيارنا، لأن مكونات الجمهورية ليست، من جهتها أيضاً، قليلة الشأن ولا ضئيلة الفعل، في البلاد". ويكاد نصه هذا أن يوصف بأعنف ما نعتت به الجمهورية اللبنانية منذ نشأتها حتى الآن. ذلك أن كل البنى التي تبنى عليها الدولة العصرية هي، في نظر بيضون، متقطعة. فجمهورية متقطعة في الزمان التاريخ، وفي المكان الجغرافيا، وفي الموضوع بنى الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية، هي جمهورية متقطعة على كل صعيد، وهي غير قادرة على الحياة لذاتها وبذاتها. هكذا تبلغ الصيغة الطائفيةاللبنانية، في وصف بيضون، ذروة مأزقها البنيوي على طريقة المسرح الدرامي بحيث يتحول موتها إلى صيغة لحياة جديدة يجب البحث عنها خارج المكونات، والأعراف، والتقاليد التي بنيت عليها هذه "الجمهورية المتقطعة". دليلنا على ذلك أنه استعرض ذهنياً، وبسرعة، صيغة قديمة - جديدة ترمي إلى استبدال هذه الجمهورية بملكية أو إمارة، على أمل الوصول إلى حكم يضمن استقرار المجتمع اللبناني ويعيد الاعتبار لفاعلية السياسية فيه. لكنه سرعان ما يتنبه إلى أن ما فشلت في تحقيقه الصيغة الجمهورية لن تنجح فيه صيغة الإمارة المستعادة من التاريخ اللبناني نفسه، أو صيغة الملكية المستوحاة من نماذج أخرى. وبما أن للباحث خبرة بحثية ممتازة في تحليل الصيغة اللبنانية في مختلف مراحلها، ويرى أن العلة الأساسية لتقطع الجمهورية تنبع من البنية الاجتماعية والنظام السياسي. يقول في ذلك: "نحن لا نرد هذه إلى سلطة الدولة وحدها... بل إلى ما يدور في هذه الجماعات وبينها، على نطاق الحلبة الاجتماعية برمتها. أي أن الصيغة المشار إليها هي الصيغة الحسية أو المادية بما تشهده من أحوال متغيرة لما يطلق عليه اسم "العيش المشترك". فالصيغة اللبنانية، من حيث هي صيغة طائفية، هي مصدر علل غير قابلة للشفاء لأنها صيغة فاسدة يستحيل إصلاحها. فهي تخالف فرضية الصراع الحر وتكافؤ الفرص بين اللبنانيين، وتلغي مبدأ محاسبة الفاسدين والمفسدين وقيام الإدارة النظيفة المبنية على العلمية دون سواها والتي تعتبر مرآة التقدم في الدول العصرية المتطورة. وهي تقطع الطريق على ولادة قوى سياسية وطنية غير طائفية، تغلب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الشخصية، والطائفية، والمذهبية، والمناطقية، والكتاب، بكامل فصوله، إدانة لعلل هذه الصيغة في حقول السياسة، والتربية والتعليم، والإعمار، والتمثيل الشعبي، والمؤسسات الديمقراطية، والإدارة، والثقافة، وغيرها، لأنها ثمرة هوية مأزومة لم تنتج سوى جمهورية متقطعة في الزمان والمكان والموضوع. وليس ما يشير إلى أن اللبنانيين تعلموا الكثير من دروس وعبر الحرب الأهلية الطويلة لسنوات 1975 - 1990 كما لم يتعلموا من الحروب الأهلية السابقة. ويخلص إلى القول: "لا تزال مسألة هوية اللبنانيين الوطنية عرضة لتلبيس مزمن مزدوج. فهذه الهوية، ما إن تذكر حتى يتراءى المزق الذي يشطر نسيج الشعب اللبناني، عوض أن تظهر اللحمة التي تضمن وحدته. هذه الحال مستمرة، على رغم تقلب الأوقات الذي يسع المؤرخ أن يحصي محطاته، منذ إنشاء لبنان المعاصر في سنة 1920... لم يحسم التاريخ مصير لبنان المعاصر سلفاً، وهذا أمر لا يزيد المسؤوليات الضالعة، من الداخل والخارج، في التجربة اللبنانية إلا جسامة. وأما التاريخ القريب فإنه نفخ مزيداً من الحياة في عوامل الشقاق... لكن التاريخ ساحة لنشوء الجديد، ولكل تطور أن يدخل، بمقدار أهميته، في صوغ وضع لا سابق له... فإذا سيس مستقبل لبنان من غير عثرات فادحة، جاز لنا أن نشهد فيه خروج خصوصيات الجماعات التي تستحوذ على وجداننا من حالة الغليان إلى الحياد وإلى الروية. وإذ ذلك يصير المجال ممهداً أمام تفتح نكون أوفر اطمئناناً إلى استمراره لهويتنا المشتركة". ليس من شك في أن كتاب أحمد بيضون الجديد "الجمهورية المتقطعة" ينتظم في سياق الأبحاث العلمية النقدية للصيغة الطوائفية اللبنانية ولكل من مجد محاسنها. والمؤلف من أبرز الباحثين اللبنانيين الذي كتبوا في هذا المجال منذ صدور كتابه المهم "الصراع على تاريخ لبنان". فالصيغة الطائفية صيغة ماضوية لا يمكن أن تسهم في حل الأزمات الراهنة التي يعاني منها اللبنانيون، وبقاؤها لن يكون مؤشراً إيجابياً على بناء لبنان المستقبل الذي يتمناه اللبنانيون كدولة عصرية قادرة على مواجهة عصر الهيمنة الأميركية الوحيدة الجانب على العالم، مع ما يستتبعها من تحديات النظام الشرق أوسطي الجديد وموقع إسرائيل الفاعل فيه. وقد توهم بعض اللبنانيين الذين آمنوا أن أبطال الحرب الأهلية قادرون على بناء لبنان الجديد على أسس ديموقراطية سليمة لمجرد أن هؤلاء توصلوا إلى اتفاق ينهي الحرب الأهلية عام 1989. علماً أن إيقاف تلك الحرب كان قراراً دولياً وليس محلياً. أما تمجيد اتفاق الطائف، والدعوة ليل نهار لتنفيذ بنوده، فلم يقدم الطمأنينة للبنانيين لأن "التاريخ العبء" ما زال ماثلاً بقوة في الحاضر عن طريق استمرار رموز الحرب في إدارة الدولة اللبنانية. وما قانون الانتخاب الذي صدر أخيراً ليطبق على الدورة التشريعية لعام 2000 سوى نموذج بالغ الدلالة على استحالة ولادة تمثيل شعبي سليم مع الحفاظ على التوازنات الطوائفية السائدة منذ ولادة قانون الانتخاب. فالقوى التي نجحت في تعطيل التمثيل الشعبي بالمفهوم الديمقراطي نجحت أيضاً في تعطيل الأصلاح الإداري، والسياسي، والتربوي، والثقافي. إن التاريخ الذي يحتاجه اللبنانيون هو التاريخ الحافز، التاريخ الذي يبني الحاضر بعيون المستقبل وليس بحجارة الماضي التي لم تعد غالبيتها صالحة للبناء. ولم يجرب اللبنانيون حتى الآن بناء التاريخ الحافز، تاريخ الوطن الموحد لا تاريخ الطوائف المتناحرة والمتعايشة على أرض واحدة. وما زالوا أسرى صيغة ماضوية تنطلق من مقالة خاطئة ترى أن "لبنانوالطائفية توأمان"، وأن لا حياة للبنان ألا بالحفاظ على بنية طوائفية تنتج نظاماً طائفياً، وميثاقاً طائفياً، وصيغة طائفية. وعلى رغم المآسي الكبيرة التي حلت بلبنان واللبنانيين ما زال قادته يصرون على استعادة التاريخ العبء، تاريخ الطوائف المتنازعة باستمرار طوال فترات متقطعة، فينتجون على الدوام "جمهورية متقطعة". ختاماً، إن كتاب "الجمهورية المتقطعة" وثيقة اتهام للصيغة المجتمعية الطوائفية في لبنان وليس فقط للنظام السياسي اللبناني. وقد صاغه أحمد بيضون بأسلوب أدبي مشرق يعيد للكتابة التاريخية الكثير من جمالياتها التي كادت تضيع وسط ركام من الدراسات الكمية الرديئة، شكلاً ومضموناً. إنه لكتاب بالغ الأهمية يسلط الضوء على أواليات تجدد الصيغة الطائفية في لبنان مقدماً نماذج موثقة على ما آلت إليه هذه الصيغة طوال عشر سنوات من التطبيق العملي لاتفاق الطائف. * مؤرخ لبناني.