الطفولة عالم مدهش، بريء ومشاكس ومتقلب، طيع ونزق، يرفض الوصاية وينشد الفوضى، يكره الرتابة ويحب العبث، ويتخطى جوهر الطفل تلك القسمات الساذجة المرتسمة على محياه، الى اعماق مليئة بالتمرد والرفض والذكاء والمفارقة… إزاء ذلك كان لا بد من ايجاد صيغة للتعامل مع الطفل، وبوصلة توجهه، وتشذّب مداركه، وتنمي مواهبه، وتفتح له ابواب العلم والأمان، وترسم امامه آفاق الخطى السديدة، وتعتني بعالمه "الطازج" والغامض. والاهتمام بالطفل، وتربيته، ورعايته قديم، قدم التاريخ، فقد اهتم المصريون القدماء بهذا الجانب وأولوه اهتماماً خاصاً، ثم جاءت الديانات السماوية لتكرس ذلك الاهتمام. ففي التربية المسيحية هناك الأديرة، وفي التربية الاسلامية الكتاتيب، واستمر هذا الاهتمام في العصور الوسطى عبر فتح مؤسسات خاصة بتربية الطفل. وظهر المفكرون والفلاسفة الذين صاغوا النظريات التربوية الهادفة الى الاهتمام بالطفل وتنمية مداركه. ويعد المربي الألماني فروبل المولود سنة 1782 من المؤسسين الحقيقيين لما يسمى اليوم "رياض الأطفال"، وكان ذلك العام 1840، حين افتتح معهداً للأطفال باسم "روضة الاطفال" وهي الترجمة العربية للتسمية الألمانية، والى الآن تسمى بنفس التسمية. واهتمت كذلك المربية الايطالية مونتيسوري المولودة سنة 1870 بعام الطفل. فقد عملت في مجال الطب، واهتمت بضعاف العقول، وعندما نجحت في تجاربها، طبقتها على الاطفال الأسوياء، متأثرة بنظريات فروبل. فافتتحت مدارس خاصة بالاطفال طبقت فيها طريقتها التربوية، من حيث احترام حرية الطفل بمعناها البيولوجي "ان يلمس الأشياء، ويسأل، ويناقش…"، كما اهتمت بالتربية الاخلاقية، والتربية اللغوية، وتنمية الحواس وابتكرت لذلك ألعاباً عدة خاصة برياض الاطفال، ما زالت تحظى بالاهتمام. فابتكرت عبوات ذات روائح مختلفة لتمييز الرائحة، وقضبان خشبية مختلفة الاطوال واسطوانات مختلفة الاحجام كي يتمكن الطفل من تمييز الكتل والاطوال والأحجام، وتركيبها للحصول على اشكال مختلفة، كذلك كانت تعرض على الاطفال اقمشة ذات ألوان متباينة وملمس مختلف، للتمييز بين اللون والملمس، وهناك معمل الى الآن في بلجيكا باسمها يصنع الألعاب التي ابتكرتها. يقول السيد محمد خالد الكسم صاحب روضة "دوحة التربية" التي يعود ترخيصها الى العام 1961: "ان الروضة تفتتح مواهب الطفل ومداركه" شريطة توفير "المكان الواسع والألعاب المتنوعة". ويضيف: "ان عدد التلاميذ بالصف يتراوح بين 25 و30 تلميذاً في ثلاث فئات مقسمة حسب الاعمار، الفئة الاولى: 3 سنوات، الفئة الثانية: 4 سنوات والفئة الثالثة: 5 سنوات". وعن رسوم التسجيل للسنة الدراسية، ومدتها 9 اشهر يقول الكسم: "رسم التسجيل 6000 ل. س 120 دولار اميركي ينقسم مناصفة بين الروضة وسيارة النقل". ويتباهى الكسم بأن روضته هذه قد تعلم فيها الآلاف ممن اصبحوا الآن اساتذة جامعات، وأطباء، وصيادلة ومهندسين، وشبّه عالم الطفل بقطعة عجين "تستطيع ان تصنع منها ما تشاء". وعن سؤال حول الآثار السلبية التي من الممكن ان تتركها الروضة على الطفل بالنظر الى حرمانه من حنان الام في هذه السن المبكرة، تقول صاحبة روضة "جنة العصافير": "هناك تعويض عن حنان الأم في الروضة، شريطة اختيار المعلمات المناسبات، لدرجة نأخذ بعين الاعتبار، عند اختيارهن، اسلوب المعلمة، وطريقتها المناسبة في التعليم، اكثر من مؤهلها العلمي". يشار هنا الى ان جميع المدرسين في رياض الأطفال هم من الإناث. وتشترط وزارة التربية على الراغبين في الحصول على ترخيص لافتتاح روضة اطفال، المؤهل الجامعي، اضافة الى المكان الواسع، وتوفير الوسائل المساعدة على التعليم، كما ان هناك جولات دورية من قبل الوزارة للوقوف على حقيقة التعليم في تلك الرياض، وتقديم التوصيات والمقترحات بشأنها. وجميع رياض الاطفال تعتمد المناهج المقررة من وزارة التربية، وتصدر الوزارة ايضاً "دليل المعلمة" تبين فيه كيفية التدريس، وطريقته، وتوصي فيه بتطبيق افضل النماذج، وهناك بعض الاجتهادات الشخصية من قبل القائمين على رياض الاطفال، فيدرّسون مثلاً للتلاميذ كتباً غير مقرر رسمياً حين يرونها مناسبة ومفيدة. يقول السيد عبدالوهاب الشركة وهو مدرس منذ 50 عاماً، وصاحب روضة "بلابل الرحمة" منذ 10 سنوات: "ان الروضة تنمي مهارات الطفل في جوانب مختلفة. الرسم، الموسيقى، الرياضة، الخطابة، الاشغال، اللغة الاجنبية وتعليم الكمبيوتر. والوسائل المساعدة في التعليم هي مسرح العرائس، الفيديو، الألعاب والدمى المختلفة، الرسوم والأشكال الجاذبة للطفل". ويضيف: "درّستُ في الابتدائي والاعدادي والثانوي فلم اجد اجمل وأحلى من علاقتي مع هؤلاء الملائكة، لأن الحب يعوض في قلب الطفل اضعافاً مضاعفة". ويستشهد بزيارات تلاميذه اليه من الذين تخرجوا من روضته بين الحين والآخر. وقد انشأت بعض الاتحادات والنقابات، رياض اطفال، وهي مخصصة لأطفال اعضائها. طالب بعض اصحاب رياض الاطفال بدعم مادي من وزارة التربية، واشتكى آخرون من ضعف المقررات الموضوعة، ورغم ذلك اتفق الجميع على اهمية رياض الاطفال في حياة الطفل من جميع النواحي الاجتماعية والتعليمية والاخلاقية والنفسية، وتعتبر الروضة، في رأيهم، محطة مهمة لتهيئة الطفل لدخول المدرسة الرسمية. تقول الدكتورة سلوى مرتضى استاذة مادة رياض الأطفال بكلية التربية - جامعة دمشق: "تلعب رياض الاطفال دوراً مهماً في حياة الطفل، ففي هذه المرحلة يتشكل 50 في المئة من ذكائه، ويتم خلالها 90 في المئة من العملية التربوية، وتأخذ هذه المرحلة اهميتها في كونها تهتم بنمو الطفل من النواحي الجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية واللغوية، وذلك من خلال مجموعة وسائل تربوية تختلف اختلافاً تاماً عن الوسائل المتبعة في المدارس الابتدائية الرسمية، اذ تسهم الروضة في تهيئة الطفل للانفصال التدريجي عن تعلقه الزائد بأمه، كما تساعده على التخلص التدريجي من التمركز حول الذات". وتضيف مرتضى ان الروضة "تلبي متطلباته التي يعجز الأهل، أحياناً، عن تلبيتها، اذ ان البيوت لم تعد تتسع لحاجات الطفل كافة، من العاب أرجوحة، دراجة، سلالم تسلق، الدمى والألعاب… الخ كما ان امكانات الأهل قد تعجز عن توفير كل تلك الألعاب". وتهيب مرتضى بالمعلمة "ان تقوم بدور الأم في الروضة، فتقدم للطفل العناية والاهتمام والتربية السليمة بحيث لا يشعر بالفرق بين حياته في المنزل، وحياته في الروضة، لذلك لا بد من اعداد المعلمة اعداداً كافياً، تدرس من خلاله خصائص الطفولة وحاجاتها وكيفية تلبيتها". ويتفق الدكتور خالد ناصف، مدرس علم النفس الاجتماعي في قسم علم النفس بجامعة دمشق، مع مرتضى، فيقول: "ان رياض الاطفال تساهم مساهمة فعّالة في جوانب النمو المختلفة. ففي الجانب الانفعالي تنمي لديه مشاعر المحبة والعطف وتضبط انفعالاته، وفي الجانب المعرفي تنمي تفكيره، وتوسع مداركه، وتقوي لغته، اما في الجانب الاجتماعي، فان الروضة تكوّن لديه الصداقات، وتقوي علاقاته وتفاعله الاجتماعي، وتظهر الميول القيادية لديه. وفي الجانب الاخلاقي تعلّمه مجموعة من المبادئ والقيم والمعايير،. فيميز من خلالها بين الخير والشر، وبين الخطأ والصواب". ولعل اقوى تأكيد لتلك الآراء، هو ما قاله احد اطفال روضة "دوحة التربية" اذ قال بنبرة مرتبكة غير واضحة تماماً بأن الروضة "تجعلني اكبر". نشير، اخيراً، ان قصيدة السياب "الأسلحة والاطفال" لم تبارح المخيلة، خلال انجاز هذا التحقيق، تلك القصيدة الزاخرة بالمفردات الجميلة، التي يقول الشاعر في مطلعها: عصافيرُ؟ أم صبية تمرحُ/ عليها سناً من غدٍ يلمحُ؟ وأقدامها العارية… محارٌ يًصلصل في ساقيه. لأذيالهم رفَّةُ الشمألِ/ سرت عبر حقلٍ من السنبلِ، وهسهسةُ الخبز في يوم عيدْ/ وغمغمة الأمّ باسم الوليد تناغيه في يومه الأول. إنها صورة شفافة التقطها السياب، وهي صورة تتكرر كل يوم، بشكل آخر، حين نرى سرب الاطفال، يسير نحو "الروضة"، ليبحث في جنباتها عن رحيق، يقتات به في خطواته نحو المستقبل.