7 الثورة في أفغانستان طالبان وفي إيران حدثت كرد فعل على التغريب . وبصرف النظر عن الدلالة السلبية لهذا المصطلح عند هويدي ، فالتغريب استحضار للآخر/ الغريب ( = الغرب ) داخل سياق الأنا . فمواجهته بثورة عامة مسلحة أو شبه مسلحة ، يعني أن الموقف كان حادا وحاسما منه ، وأنه لم يتم التعاطي معه بآلية التواصل الحضاري المُبدع ، والذي هو أي التواصل المبدع عمل فرزي بالضرورة ، وإنما تم التعاطي معه بالرفض والانكفاء والانغلاق . وهذا ظاهر بجلاء فاضح ! لدى طالبان ، وظاهر أيضا لدى ثورة الخميني ، وخاصة في السنوات الأولى من الثورة ، عندما كانت خمرة الانتصار تلعب بالألباب . 8 كل من النموذجين استغل حالة يأس سابقة عليه ، أي أنهما تقدما لمجتمع بسيط ساذج بوعد طوباوي عريض ، وعد بالخروج من واقع مأساوي لا يُحتمل . اليأس في إيران ظهر عندما فشلت كل الأحزاب السياسية في وقف طغيان الشاه ، ولم يستطع أيٌّ منها الحد من الاضطهاد الذي كان الشعب يرزح تحت وطأته . كذلك الحال مع الشعب الأفغاني الذي لم يجد من الأحزاب الجهادية التي طردت الروس غير انعدام المسؤولية والصراع المجنون على السلطة ، بل لقد تحوّل كثير منها إلى جماعات لصوصية، تقطع الطريق وتفرض الإتاوات وتتاجر بالمخدرات وتعتدي على أعراض الناس . إذن ، الخيار أتى بعدما تحطمت كل قوارب النجاة ، حيث لم يجد الشعب الإيراني أمامه إلا هذا المركب المتهالك (= الثورة الخمينية ) ، فتعلق به كتعلق الغريق بقطع الحطام ، تعلق به لا عن قناعة حقيقة كما توهم ، وإنما لأن الخوف من الغرق جعله يرى فيه طوق نجاة . إنه كان كالإنسان المريض الذي يؤمن إيمانا جازما بالعلم ، ولكن لما لم يمنحه الأطباء غير اليأس والإهمال ؛ لجأ للمشعوذين ، وآمن بالمعجزات ، واستمطر وابل الكرامات . وهذا لا يدل على أن الشعوذة أصبحت أنفع له من العلم ، وإنما يعني أن اليأس وانعدام البدائل من شأنه أن يفرض أسوأ الخيارات . 9 من ناحية الموقع الاستراتجي ، كلا البلدين يقع في منطقة صراع بين الدول الكبرى . إيران كانت مطمع كل من السوفييت والأمريكان ، وكذلك أفغانستان التي كانت موضع صراع بين الروس والإنجليز في الهند ، ثم بين السوفييت والأمريكان فيما بعد . ولا شك أن هذا الموقع الذي يفرض التواصل بكل أنواعه يتطلب قيادات انفتاحية ، قادرة على فهم لغة العصر ، لا أن يكون الأمر بالعكس . نعم ، قد تستطيع دولة ما منعزلة جغرافيا أن تنغلق على نفسها وإن بحدود ، وستكون خسائر هذا الانغلاق محدودة ؛ لأن اصطدامها حينئذٍ بالعالم سيكون محدودا ، ولكن الخسائر ستكون كارثية في حال كانت الدولة المنغلقة في موقع استراتيجي عالمي ؛ لأنها ستكون كالعريش الذي قد يصمد في الأغوار الهادئة والفجاج الساكنة ، ولكنه سيصبح هباء إذا ما تم وضعه في مهب الأعاصير . 10 من ناحية السكان ، نجد أن كلا البلدين يضم مجموعة مختلفة من الأعراق والمذاهب . ففي إيران ، كما في أفغانستان ، أكثر من عشرين مجموعة عرقية . وهي أعراق قديمة وراسخة يصعب تجاوزها في أي تشكيل سياسي . ولاشك أن مثل هذه الأوطان تحتاج أكثر من غيرها إلى أن تتمثل الأنظمة التعددية المنفتحة ، وأن يتم تجنب قسر الجميع وفقا لمصالح ورؤى بعض هذه التنويعات . إن إلغاء الخصوصيات التي يتضمنها كل عرق و كل مذهب ، لصالح عرق واحد أو لصالح مذهب واحد ، من شأنه أن يؤثر على الاستقرار السياسي والأمني ، كما أن من شأنه أن يربك الخيارات الحضارية ذات المنحى التقدمي ، وستضطر كلٌّ من الأعراق والفرق المهمشة إلى أن تبحث عن مصالحها خارج نطاق السلطة المهيمنة ، بل وإلى أن تتكون مصالحها في الغالب في سياق يتضاد مع مصلحة الدولة التي يستظلون بها . وهذا ما رأيناه عندما سيطرت طالبان البشتون ، وأرادت فرض هيمنة العرق وفرض تفاصيل المذهب الخاص على كل الأفغان ؛ فتحالف كل الفرقاء ضدها بكل إصرار . وهذا أيضا ما يحدث الآن في إيران . 11 من الناحية العميلة ، كان ( أمير المؤمنين !) له صلاحيات مماثلة لصلاحيات الولي الفقيه . كلاهما يُنتخب أو تقوم له البيعة لأجل غير محدود ، وكلاهما فوق السلطات ، وكلاهما له الكلمة الأخيرة . الولي الفقيه هو القائد الفعلي الحاسم فيما يستشكل ، بينما رئيس الجمهورية مجرد أداة لتنفيذ إرادة القائد . كذلك الأمر عند طالبان . فالملا عمر في قندهار ، بينما هناك رئيس المجلس الحاكم الذي يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية ، ويرأس مجلس الوزراء في كابول . أي أن القائد حاضر بصلاحياته المطلقة ؛ حتى وإن كان غائبا بجسده عن إدارة الجهاز التنفيذي . وهذا في تصوري يُراد منه أن يحتفظ القائد بهالته الدينية المتعالية ؛ بعيدا عن الامتهان في الفعل السياسي المباشر الذي لا بد أن يطال صاحبه كثير من اللوم والعتب ، خاصة في الوقت الذي يكون فيه هو المُحدِّد الفعلي لمجريات الأمور . 12 ما فعلته الكوميتات ( = لجان الثورة ) في إيران بعد نجاح الثورة مباشرة ، لم يختلف عنا فعلته جماعة طالبان بعد نجاحها . لقد قامت لجان الثورة بملاحقة النساء في الشوارع ومراقبة أزيائهن ، كما قامت بمنع الرجال من ارتداء أربطة العنق ، إضافة إلى مداهمة البيوت التي تسمع فيها أصوات الموسيقى ...إلخ . وكانت هذه اللجان تمارس تأديب الناس في الشوارع ؛ عندما لا يلتزمون فورا بتعاليمها الصارمة ، خاصة فيما له ارتباط بالنساء . أيضا ، طالبان قامت بأفعال مطابقة ، بل زادت عليها بما يتوافق مع درجة تقليديتها التي تجاوزت تقليدية الملالي في إيران . يعكس هذا التزمت تعميم صدر في 17/12/1996م من نائب وزير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حكومة طالبان ، يتضمن ستة عشر محظورا ، ومن أهمها : منع الفتنة وسفور النساء . حيث يُمنع أصحاب سيارات الأجرة من إركاب النساء اللاتي لا يغطين وجوههن . كما يمنع خروج النساء من البيوت إلا بمحرم . وإذا ما شوهدت امرأة كاشفة عن وجهها في الشارع فإن زوجها سيتعرض للعقاب ( لاحظ : العقاب لا يتم توجيهه للمرأة ؛ لأنها في نظرهم كائن غير مسؤول ، أي بمرتبة الحيوان المهمل الذي يتسبب في الضرر ، فيعاقب صاحبه بسبب إهماله ) . حظر الموسيقى . وإذا عُثر على شريط موسيقى في أي محل ، فإن صاحبه سيتعرض للسجن والمحل سيغلق . أداء الصلوات في المساجد . حيث لا بد أن تُوقف جميع الأنشطة ، حتى المواصلات يجب أن تتوقف قبل موعد الصلاة بخمس عشرة دقيقة . منع حلق اللحى . وأي شخص يُقبض عليه بعد شهر ونصف من هذا الإعلان وهو بلا لحية ، سيتم احتجازه حتى تنمو لحيته . وهذا ما جعل فهمي هويدي يعقد فصلا كاملا في كتابه بعنوان : ( لحية لكل مواطن ) و ( تشادري لكل مواطنة ) . تمنع تربية الحمام واللعب بالطيور . منع تعاطي المخدرات ( وهذا طبعا غير المتاجرة بها ، الذي يُجيزه فقهاء طالبان لأجل مصلحة اقتصادية ، على أن يتم بيعه للخارج ولا يستهلك محليا ) . يحظر اللعب بالطيارات الورقية أو المراهنة عليها . على أصحاب المحلات والفنادق والسيارات أن يمتنعوا عن رفع أي تماثيل أو صور لأشخاص . يمنع إطلاق الشعر على الطريقة الغربية ، وعلى مسؤولي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يحلقوا شعره ، ويأخذوا منه أجرة الحلاقة . يمنع على النساء غسل الثياب على ضفاف الأنهار . ومن تخالف ؛ سيعاقب زوجها أو ولي أمرها بشدة ( مرة أخرى : المرأة غير مؤهلة حتى للعقاب ؛ لأنها ليست كائنا عاقلا مسؤولا في نظام طالبان ) . يُحظر على الرجال خياطة ملابس النساء . أما ما لم يرد في هذا البيان الطالباني ، مع أنه في تقديري هو المحظور الأهم ، المحظور الذي استفز الجميع ، حتى المتعاطفين مع طالبان ، فهو ( منع تعليم البنات ) . ولقد كتب فهمي هويدي عنه فصلا بعنوان : ( .. حين أصبح تعليم البنات مشكلة ) ، وذكر فيه بعضا من جداله مع المسؤولين عن هذا المنع من زعماء / فقهاء طالبان . ومن الغريب أنهم كلما طُرحت عليهم التساؤلات عن مبررات هذا المنع قالوا بالنص : " طالبان لا تفعل أكثر من تمسكها بتطبيق الشريعة " و " نحن لسنا مستعدين للتخلي عن شريعتنا " . ولا شك أن هذه صورة فاقعة الألوان للمتطرفين الذين يتصورون آراءهم المتشددة تعبيرا حتميا عن حقيقة الإسلام . إنهم لم يتساءلوا : لماذا هم وحدهم من بين كل المسلمين ، يمارسون هذا المنع ، وهل تخلى كلُّ المسلمين عن شريعتهم لمجرد أنهم سمحوا لبناتهم بالتعليم ؟!. طبعا ، كأي متشدد وكأي منغلق على فقهياته الخاصة ، سيجيبونك بأنهم وحدهم الذين يُطبّقون تعاليم الدين بصدق وأمانة ، وأن جميع المسلمين مفرطون . ما أشرت إليه هنا ، مجرد صورة عن بعض محظورات النظام الطالباني ، ونجد أن النفس التحكمي السلطوي ظاهر ، كما كان ظاهرا في ممارسات الكوميتات الإيرانية . وليس الأهم في هذا السياق ، ما تحكيه هذه الممارسات ، وإنما الأهم هو ما تعكسه من وعي متخلف صدرت عنه . إنها ممارسات كاشفة عن نمط عقلي بدائي ، نمط عقلي لا بد أن يقود إلى الدمار ، إلى أن يكره الناس أوطانهم التي تخنقهم ، بل إلى أن يكره كلُّ الناس كلَّ الناس . إن هذا المشهد الطالباني هو صورة مكثّفة للمشهد الإيراني ، أو على نحو أدق لما يطمح إليه التيار المتشدد في إيران . لا يمكن أن تعرف بؤس المشهد الإيراني حتى تُقاربه من خلال المشهد الطالباني ؛ لأنه مشهد رغم واقعيته المتعينة ، يحكي أفق التصور المثالي الإيراني ، تصور الملالي لطبيعة الحكم وطريقة التعامل مع الناس. وإذا كان هويدي يقول في أواخر كتابه عن طالبان ، وبعد أن استعرض تفاصيل المشهد الطالباني البائس ص175: " حتى إذا بدا للبعض أن حركة طالبان ينبغي ألا تؤخذ على محمل الجد ، لكثرة عدد ( الأصفار ) في أي شهادة محايدة تمنح لها ، فإنني مع ذلك أزعم أن التجربة تظل مفيدة للغاية ، من حيث إنها تقدم نموذجا للكثير مما ينبغي الحذر منه وتجنبه في التطبيق الإسلامي " ، إذا كان هويدي يقول هذا عن طالبان ، فإن هذا الكلام ينطبق بالصورة نفسها على نظام الملالي في إيران . أي أن العالم يجب أن يتعامل مع إيران بحذر ، بوصفها مصدرا طبيعيا للخطر ؛ حيث الإرهاب لديها هو جزء من مكونات النظام ، ولا ينبغي أن نخدع بفترات الهدوء والتصالح ، إذ هي استثناء من طبيعة النظام ، لا يلبث النظام أن يطرحها جانبا ؛ متى ما وجد الفرصة سانحة لتحقيق هذا الهدف أو ذاك . هل يجب التأكيد أنه لا يجوز النظر إلى ما يقوله نظام الملالي ، بل ولا إلى ما يتعهد به ، وإنما يجب النظر إلى طبيعته كنظام توسعي ، تسيطر عليه ذهنية الغزو والهيمنة وتأسيس الإمبراطوريات ، تماما كما كان يفكر الغزاة المتوحشون في ذلك الزمن السحيق .