رسامة الآفاق المتدرجة، ناديا صيقلي في معرضها الجديد الذي أنجزته في باريس حيث تقيم منذ العام 1975، للاحتفال بعودة ألوان الحياة واشراقة الأمل الى طبيعة لبنان في مستهل الألفية الثالثة، عبر تجارب هي بين الواقع والتجريد أسمتها "مساحات أبدية لأرض السلام". فاللوحات الثلاثون زيت على قماش التي نفذتها خلال العام 1999، جاءت اثر تأملاتها العميقة لأسرار العلاقات اللونية ومتغيراتها من فصل لآخر، أثناء تنقلها بين الأرياف الفرنسية. فاختزنت سحر الألوان الرمادية وتدرجاتها القاتمة الشتوية وعكست في آن حنينها لتوهج ألوان شروق الشمس ومغيبها في الطبيعة المتوسطية الشرقية. وهي تقيم تلك الفوارق تستحضر تلك الخطوط الأفقية الممتدة على طول الذاكرة وكأن صيقلي حين ترفع خطوط الجبال عن مستوى البحر تستحضر أهم ميزة من ميزات جغرافية الطبيعة اللبنانية. فالشواطىء المسالمة للبحار تحاذيها أقواس الهضاب ومرتفعات الجبال في الآفاق الشاسعة المتعددة الأبعاد. فالعمل الفني هو لديها تكوين جديد للمنظر، وترتيب محدث للمساحة كأقواس ومستقيمات، ضمن مناخ لوني اصطلاحي، يحتوي عادة على لون مهيمن كالأخضر أو الأصفر أو الأزرق الضبابي. المهم في تجاربها ليس الموضوع وإنما طريقة معالجتها له، وهي تستخدم المجحاف في تأسيس منظر سهل على العين قراءته بسيطة، لا يأسره التصنيف في الأسلوب، فهي تقدم لأعمالها بالقول: انجرفتُ وراء لذة الاكتشاف والتعبير بواسطة التجريد، عن المادة والألوان والإيقاعات". انها مناظر خيالية من أحلام وذكريات وأمنيات تعكس في حقيقتها مغامرة التلوين لدى صيقلي وتقنيتها البارعة في مزج ألوان لا يخطر بالبال امكانية مجاورتها لبعضها كأنها متطوفة من نضارة غير معهودة في ذاكرة ألواننا. وهي هذه المرة ترتجل من غير رقابة صارمة تعيق حركة يدها على اللوحة. ترتجل بعصب سريع وذكي وبحرية أكبر، بعد التصورات التي تبنيها للمنظر بألوان الأساس، ثم بطبقات متعاقبة ومتدرجة، من بعدها تبدأ بالمجحاف بقشط اللون بالتتالي على كل المساحة معطيةً أثراً بديلاً لأثر ضربة الفرشاة. ولمسة المجحاف المصقولة والشفافة هي التي تعطي لقماشة اللوحة مظهرها ومقامات الألوان البصرية. فاللون عالم متحرك من اللمسات. كل لمسة هي حركة حد السكين، في سلوك مغاير لأسلوب الفنانة أواخر الستينات حين كانت مع بعض فناني جيلها أمثال شفيق عبود وايفيت أشقر وهيلين الخال وجان خليفة ومنير نجم وسواهم يستخدمون السكين أو المجحاف بإحساس القوة التي تمنحها تلك الأداة في صنع عجينة سميكة من طبقات اللون: لطخة فوق لطخة أو بمحاذاتها وذلك من تأثيرات نيقولا دوستايل، ومدرسة باريس. في هذه المرحلة ناديا صيقلي تنزع اللون طبقة إثر طبقة في تقشف يصل الى الجلد واللون الأول أحياناً. كأنها تعلن انفصالها عن سطوة التأثيرات الباريسية والذوق الفرنسي، والاتجاه لاكتشاف سلم موسيقي جديد للألوان قد يرضي الأوروبي والياباني والعربي. يقول فاسيلي كاندنسكي: "عدد الألوان والأشكال غير متناهٍ. ماذا عسانا نقول عن توافقاتها ونتائج اندماجاتها؟ انها بلا شك مادة لا تنضب". وناديا صيقلي تنحاز لقوة اللون وسلطته وتأثيراته حين يتحد بالضوء، في تدرجات سحرية للأصفر البرتقالي والوردي أو للأزرق والرمادي والأصفر. واللافت في المعرض حضور اللون الأصفر كأنه اكتشاف للضوء الجديد الذي يغمر الأرض بسلامه. هكذا تسجل صيقلي عودةً من المناخ الاختباري "للبصمة الإنسانية" و"جلد الأرض" والمناظر الجيولوجية على أوراق الرز اليابانية ذات الألياف والشعيرات الرقيقة، نحو القماش والألوان الزيتية السريعة الجفاف في تصنيعها الحديث والمتطور مع المحجاف، لابتكار مساحات جميلة وبسيطة بعيدة عن التشنج والقلق، ورغم ارضائها لشريحة اجتماعية عريضة، لكنها تمتلك رؤية ومبدأ تشكيليين، لا سيما وأن قوانين الرؤية تعتمد في تآليفها على الخطوط الأفقية ضمن ايقاعٍ موسيقي متعدد الطبقات تنبسط فيه كل العناصر عَرْضياً مثل بانوراما يراها الناظر كما يرى مشهداً في الطبيعة. هذه الأفقية التي توحي بالسكينة والطمأنينة لا تلبث أن تتكامل مع الحركة العمودية في أسلوب القشط وهي حركة صعود روحاني من قاع الأرض الى مدارك السماء. ناديا صيقلي في اقامتها الباريسية تتذكر الضوء الساطع في لبنان. ضوء النهار وزرقة البحار والتلال الربيعية المزهرة. تتذكر النوافذ التي تُفتح باكراً لتستقبل الطبيعة بعبارة "صباح الخير".