لا يتعارض التجريدي والواقعي في فن هلن الخال التي تستعيد بعضاً من سيرتها التشكيلية في صالة مؤسسة "كاف دو فرانس" أليسار - طريق بكفيا - لبنان من خلال معرض مؤلف من أربعين قطعة زيتية تعود الى مختلف المراحل الفنية قديمها وحديثها، من الستينات حتى التسعينات، غالبيتها لوحات لصور وجوه ومناظر طبيعية وآفاق تجريدية. فالصراع القديم الذي عرفته حقبة الستينات بين الشكل واللاشكل، حسمته هلن الخال لصالح اللون، كمبدأ جمالي حقق لها الطموحات البصرية التي كانت تسعى اليها منذ بداياتها الفنية في جعل اللون يصل الى الملموس لمعطيات قربه من الحواس. فاعتبار القيم اللونية اساساً في ايهام الكتلة أو الشكل ذي الحجم او الفضاء اللوني، يعتمد على اسلوبها في المعالجة ما بين إذابة وبسط ومزج ومراعاة للفاتح والغامق والحار والبارد، وكأنه دخول في كيمياء اللون للارتقاء به الى أقصى الصفاء اي الى المطلق. وميزة اعمال هلن الخال هي تلك الموسيقى الضوئية التي تنبعث من اللون والتي ما ان تراها العين حتى تتعاطف معها بسهولة، لانها رحبة وعميقة، خالية من القلق أو الاضطراب، فرسمت الآفاق المتدرجة التي ترضي العين بتناغماتها الداخلية كألوان قوس قزح في سماء ممطرة، لكنها تلجأ احياناً الى كسر الصمت اللوني وبرودته، حين تضع حقول اللون في مساحات هندسية هي غالباً مربعات داخل مربعات على طريقة "ماليفتش"، وذلك لحمل الصدفة البصرية الى الذروة، انسجاماً مع مبادىء "ألبرز" و"ستيل" و"روتكو" و"نيومان" الذين فجروا امكانيات التعبير اللوني في التجريد الاميركي المعاصر، فألغوا الحضور الانساني والرموز واختزلوا الرسم والحركة وضغطوا التضاد بين القيم الفاتحة والداكنة، لمضاعفة تأثيرات اللون وتعبيراته وذبذبات تموجاته، التي أدت في ما بعد الى الفن البصري الرجراج. لكن هلن الخال على رغم نشأتها الاميركية ودراستها في نيويورك وتأثرها بالتجريديين الاميركيين، الا انها لم تذهب في ذاتيتها الى حدود الثورة نهائياً ضد الموضوع، اذ ظل الحنين الى الواقع يناديها كحاجة الى البوح لاكتشاف حقائق جديدة مع الطبيعة والناس وارض الجذور. والتجريد في فن هلن الخال، لا يرفع شعاراً ولا ينتمي الى مدرسة، لانه بات أسلوباً وسلوكاً واضحاً حيث اللون يبتكر حضوره الخاص من دون ان يكون وسيلة للتعبير عن شكل تصويري او لإملاء مساحة. لكن المفارقة الحقيقية، هي حين يتطابق دور اللون واهميته في لوحة "بورتريه" أو منظر طبيعي، حينها يصير التجريد طريقة اختزال للشكل وتصفيته وتنقيته من الشوائب والزخارف والتفاصيل، بمعنى آخر يتجرد الشكل من واقعيته ليصير وجوده في اللون وجوداً اثيرياً ملتبساً على حافة الغياب لفرط شفافيته. لكأن الجسد تصفر فيه الريح وعلى وهن تلك الطبيعة النائية تقول الفنانة "طوال حياتي وأنا أراوح بين الواقع والتجريد الصافي. وانا أحتاجهما كليهما، لانهما ضروريان لي. حين أغرق في التجريد الهندسي - اللوني، حيث لا موضوع ولا شكل ولا فكرة ولا حركة. يشغلني عندئذٍ كيفية اتصال اللون باللون، والأعلى بالأدنى والاحتكاك بالضوء ثم الانتقال من ضوء الى آخر حيث لمعانات فاتحة وغامقة اشتقاقاً او استتباعاً، وصولاً الى المطلق اللوني فأشعر بالفراغ بعدها أحس بحاجتي لان أتكلم وان أرجع الى الدنيا والحياة. لذلك تهمني الوجوه وأرسم لوحات البورتريه". وبراعتها في "البورتريه" تشهد بقدرتها على التشخيص والتصوير اللذين جعلاها تنفذ الى اعماق التعبيرات الدفينة واحوالها السيكولوجية. من أول الوجوه صورتان لطفليها طارق وجواد اللذين رسمتهما للتعويض عن حرمانها منهما وصورة لوجه زوجها الشاعر الراحل يوسف الخال إثر طلاقها منه، ثم تراتبياً وجوه الاصدقاء والاقرباء، وعداهم صور حسب الطلب، ما جعل "البورتريه" يستمر في فن هلن قدر ما يعينها جزئياً على تحمّل اعباء معيشتها. فهي ترسم وتكتب وتعمل يومياً في احدى السفارات العربية في بيروت. "أهمية البورتريه - تقول الفنانة - انه يشكل تحدياً دائماً لي. الوصول بشكل اساسي الى الشَبَه، والأهم إظهار شخصية صاحب الصورة: إطلالته وطبيعته. من وقت لآخر أرى ضوءاً في بعض الوجوه أحاول ان أمسكه. عادةً الاطفال يملكون هذا الضوء بسبب الطهر والبراءة والصفاء. ويحدث ان يوصيني احدهم على لوحة وأقضي وقتاً طويلاً لانجازها ثم لا يأتي ليأخذها، عندها أشعر بالاسف، وكثيراً ما تباع تلك الوجوه بسبب مقوماتها الفنية. على رغم ذلك اعتبر ان "البورتريه" هو نافذتي الى العالم والناس". وربما يعود الولع بالوجوه الغارقة في شفافية ضوئية مميزة، الى انها تتلمذت على الفنان الانطباعي قيصر الجميل المتأثر الى بعيد بأسلوب رينوار وطريقته في رسم مواضيع النساء ولا سيما في اظهار الطلاوة الناعمة لوجوه الفتيات المراهقات وخدودهن المتوردة الناعمة المفعمة بالضوء. وذلك حين درست الفن في الاكاديمية اللبنانية بين عامي 1946و1948، مع جيل من الفنانين المحدثين أمثال: شفيق عبود وفريد عواد ومنير عيدو وميشال بصبوص ونقولا النمار وإيفيت أشقر. وأسوة بزملائها تدرجت من الانطباعية الى التعبيرية والى ما بعد التكعيبية وصولاً الى التجريد، على تنوعه الهندسي الخطي واللوني او الغنائي. فكان الرسم بالسكين والمجحاف عنواناً لمرحلة تشكيلية كانت هلن الخال من ضمنها تعلن انتماءها للتجريد اللوني لمدرسة باريس لا سيما اسلوب نيكولا دوستايل حيث اللمسة الكثيفة والحادة والتلاوين الساطعة المتقاطعة الحدود والمناخات. وكانت هلن الخال آنذاك تكتشف طبيعة ميولها اللونية، فنبذت السكين وعادت الى الريشة للتعبير عن شفافية اللون في التجريد المنبثق من الطبيعة، وأخذ اهتمامها بملاحقة الضوء يطغى على ما عداه الى ان وصل الى التجريد الهندسي البصري ذي الاتجاه اللوني الأدنوي "Minimalisme". فالتقنية التلوينية هي سر لوحة هلن الخال ومن مقومات جماليتها وجاذبيتها تجريداً كانت أم تشخيصاً. "كي أصل الى الشفافية - تقول الفنانة - أضع طبقة خفيفة من اللون وحين تجف، أضع طبقة ثانية رقيقة. فلوحتي مثل طبقات الجلد الرقيقة، ومن الضروري ان يكون سطحها ممهداً ومالساً لأن القماشة البيضاء تعطي ضوءاً لا أحب ان أفقده في عملية التلوين. لذلك لا بد ان اعرف ما أريد بالضبط من دون خطأ. والا فان تعاقب الطبقات اللونية يزيد من سماكة القماشة ويختفي حينها البياض الاول ولا تعطي اللوحة النتيجة التي ابتغيها. مثل العزف على البيانو أصابعي على الفرشاة، أستطيع متى شئت تقوية نبرة اللون أو تخفيضها حتى الهمس". والتجريد له أطوار في مسيرة هلن الخال: "لم أتعب منه يوماً. منذ العام 1973 وأنا أرسم تدرجات لونية وافاق بلون واحد أو لونين وربما اكثر. ليتني أرسم مثل فرمير كمثال للواقعية الرائعة على رغم ان انتاجه كان قليلاً، لكن احساسه بالضوء جاء متفرداً ونادراً لانه نابع من الواقع اليومي المفعم بالصدق، ولكني الجأ الى التجريد لحاجة في نفسي. إذ أرى في لوحتي الأبعاد الداخلية تتحرر من أعماقها وتأتيني من مسافات لامرئية وتريحني ايما راحة. بلا مشقة ولا تفكير، هذا النوع من التجريد متصل باللاوعي، ويتجاوز دوماً الطبيعة الى ما هو أبعد منها ربما ألغازها واضطراباتها وتغيراتها وأقصد الضوء الموجود في اللون. فيما مضى كنت أرى ذلك الضوء - أي مرحلة السبعينات - وكنت أحسه بقوة. في علاقة زرقة البحر بالسماء والغيوم وانعكاسات الاضواء على الامواج المتقلبة. كنت أرى اللون يتحرك رطباً نضراً وليس ناشفاً وملوثاً ومتعكراً كما الآن. اليوم بت لا أرى ذلك الضوء فقد أضعته ولم يعد موجوداً الا في ذاكرتي، لذلك أبحث عنه دوماً في الألوان الصافية والمضيئة. لم يبقَ لي سوى ملاحقة اللون لذاته ولحضوره ولملمسه الاثيري والغامض.