ها هم صانعو السياسة الاسرائيلية والأميركية يُفاجأون مرة أخرى بموقف الرئيس حافظ الأسد من عملية السلام، المتمثل بالمراوحة بين التقدم والتوقف. فقد أعلن رئيس الوزراء ايهود باراك، ناهيك عن الرئيس بيل كلينتون، مراراً الاقتناع بأن الرئيس السوري اتخذ "قراراً استراتيجياً" بالتوصل الى تسوية سلمية للخلافات مع اسرائيل. لكن سرعان ما بدا أن رفض سورية العودة الى المفاوضات المؤجلة في شيبردزتاون، ثم التصعيد الدموي المفاجىء لعمليات حزب الله في جنوبلبنان، يكذبان هذا الاقتناع. أعلن الرئيس الأسد عن الخيار الاستراتيجي للسلام مبكراً في 1994، وهو ما أدى الى سلسلة من المحادثات العالية المستوى في مزرعة واي في الولاياتالمتحدة. وتوقفت المحادثات في 1996 بانسحاب اسرائيل، وليس سورية منها، اثر الهجمات الفلسطينية على المدنيين الاسرائيليين. بعد هذه الفترة الطويلة من الجمود عاد الطرفان الى التحادث في شيبردزتاون في كانون الثاني يناير الماضي. وانتعشت التوقعات بحل قريب، لكنها سرعان ما انهارت. هل السبب هو مزاجية الرئيس السوري ونزقه؟ هل انساق كلينتون وباراك وراء رأي خاطىء كان أول المنادين به هنري كيسنجر، وأصبح بعد ذلك من مسلمات وزارات الخارجية في انحاء العالم، وهو ان الرئيس الأسد مفاوض متناهي الذكاء وفي الوقت نفسه موثوق تماماً؟ اليس على أميركا واسرائيل الآن، بعد هذا التحرك الغريب من الأسد، التخلي عن فكرة ان العائق الرئيسي على طريق التسوية هو الجانب الاجرائي وليس الجوهري من المفاوضات، لأن هناك اتفاقاً الى حد كبير على الجانب الأخير؟ انها اسئلة مهمة يميل المعلقون الأميركيون والاسرائيليون في شكل متزايد الى الرد عليها بالايجاب، فيما يخيم على المسار السوري جو من الشكوك، ان لم يكن اليأس. لكنني اعتقد ان خيبة الأمل هذه تنبع من خطأ كبير وبالغ الخطر في النظرة الى الرئيس الأسد. لأن الواقع ان سلوكه أبعد ما يكون عن النزق، بل كان دوماً متماسكاً ومتوقعاً. ولكي نفهم هذا التماسك علينا أولاً ان نفهم الرجل. خصص الرئيس الأسد اكثر حياته لما يعتبره الدفاع عن القضية العربية، فيما رأى ان غيره من القادة، من أنور السادات الى ياسر عرفات الى الملك حسين، قد خانوا تلك القضية. وعاهد نفسه، عكس هؤلاء القادة الضعفاء الذين استسلموا لاسرائيل والولاياتالمتحدة، على التمسك حتى النهاية بكرامة العرب، معتبراً ان هذا الصمود هو تركته للتاريخ العربي. سؤالي الى الرئيس الأسد عندما التقيته في 1994 كان عن الفرق بين اتفاقه المزمع للسلام مع اسرائيل والاتفاقات التي توصل اليها القادة العرب الذين يدينهم بكل ذلك العنف. ولاحظت أنه يركز دوماً على "الشمولية" ويرفض بشدة الاتفاقات الثنائية. لكن ما معنى الشمولية الآن بعدما توصلت مصر والأردن والفلسطينيون الى اتفاقاتهم الثنائية مع اسرائيل؟ جواب الأسد كان أن الشمولية لم يعد لها معنى جغرافي. انها الآن ليست أفقية بل عمودية، بمعنى أنه، عكس القادة الآخرين، لن يسمح بتأجيل أي قضية بين سورية واسرائيل، وأن على الأخيرة ان تقدم أجوبة واضحة وقاطعة عن كل القضايا قبل ان يصافح، رمزياً وأيضاً حرفياً، رئيس وزراء اسرائيلي. وقال انه لو صافح قبل ذلك لاعتبره العالم العربي منافقاً لا يختلف عن الزعماء الذين انتقدهم. من هذا الموقف الذي لا يلين كان من الغرابة ان نسمع من الأسد امتداحه العلني لنزاهة باراك وشجاعته بعد وقت قصير من انتخابه رئيساً لوزراء اسرائيل. ولم يكن له ان يصدر هذه التصريحات، أو يوافق على ارسال وزير خارجيته فاروق الشرع الى واشنطن، لو لم يحصل أولاً، من خلال كلينتون، على تأكيد من باراك على استعداده، مثل اسحق رابين قبله، للاعتراف بخط حزيران يونيو 1967 حدوداً دولية بين الطرفين والانسحاب الى ذلك الخط. وكان ذلك التأكيد، وحده من دون غيره، ما سمح للأسد بالعودة الى التفاوض مع اسرائيل من دون خطر التعرض للاتهام بخيانة قضية العرب القومية. لكن المشكلة تفجرت إثر الكشف عن وثيقة اميركية سلمت الى الطرفين في محادثات شيبردزتاون، ونشرتها الصحف العربية والاسرائيلية. وجاء في الوثيقة ان الطرفين، حتى قبل اجتماع اللجنة المشتركة المختصة بقضية الحدود، اتفقا على عدد كبير من القضايا المتعلقة بالتطبيع والأمن. ووصفت الوثيقة قضية الحدود بأنها لا تزال مثار خلاف بينهما. من هنا ساد في العالم العربي التصور بأن الأسد اعطى تنازلات من دون الحصول على مقابل، مثلاً، وكما قيل فعلاً، التزام محاربة الارهاب قبل موافقة اسرائيل الرسمية على الانسحاب الى خط حزيران 1967. وتعرض الأسد بذلك للكثير من التجريح والمهانة. المشكلة بالتأكيد اجرائية، لأن على الطرفين مناقشة قضية الحدود، ويعرف الأسد ان رأيه سيكون السائد. رغم ذلك فإن الجانب الاجرائي في هذه الحال أعمق أثراً من الجانب الجوهري. إذ ان الأسد، بعد ما تعرض له في العالم العربي بسبب نشر الوثيقة الأميركية، لن يعود الى المفاوضات ما لم يعلن باراك بصراحة ووضوح الاستعداد الى الانسحاب الى خط حزيران 1967. انه الشرط الذي لا بد منه لمحو الوصمة التي لحقت بالأسد، وصمة خيانة قضية العرب تماماً مثل اولئك القادة الذين كانوا موضع انتقاده المرير. انها بالنسبة الى الرئيس السوري مسألة استنقاذ المهمة التي نذر حياته لها. وهي، أكثر من ذلك، مسألة صيانة شرف سورية التي فاخرت دوماً بأنها "قلب العروبة النابض". أعتقد ان باراك ارتكب خطأ تكتيكياً فادحاً عندما قرر عدم اعلان استعداده للانسحاب الى خط حزيران 1967 إلا بعد ان يبيّن للاسرائيليين ما سيحصل عليه بالمقابل. وجاء هذا على رغم الزخم القوي الذي وفرته له الانتخابات، بعدما اعطته تفويضاً بمحاولة التوصل الى اتفاق مع سورية أساسه الانسحاب من الجولان - وكان هذا عنصراً رئيسياً في حملته الانتخابية. ولو كان صارح بذلك منذ البداية لأعتبر الرأي العام الاسرائيلي انه يعمل حسب مبادئه المعلنة. أما موقفه الحالي، وهو الاصرار على انه لم يتخذ قراره بعد، فهو يضعه موقف الدفاع، بل في زاوية يصعب الخروج منها. من الحجج التي يلجأ اليها المشككون في التزام الأسد القيام بتغيير جذري في العلاقة مع اسرائيل، تلك النبرة العدائية القاسية التي استخدمها وزير الخارجية الشرع في واشنطن وشبردزتاون، وأيضاً الرفض المطلق من الأسد للمشاركة شخصياً في المفاوضات أو مخاطبة الرأي العام الاسرائيلي في شكل يبعث على الاطمئنان الى نياته. الأهم من هذا ان المشككين يشيرون الآن الى تصاعد هجمات حزب الله في جنوبلبنان، الهادفة في شكل واضح الى احراج باراك، والتي تضعف من فرص العودة الى التفاوض. لكن هذه الاعتبارات، اذا اخذناها في سياق أوسع، أي شخصية الأسد وطبيعة العالم العربي، تتماشى تماماً مع الرغبة في التوصل الى اتفاق للسلام. ذلك أن على الأسد، لكي يتمكن من التوقيع على اتفاق مع اسرائيل ان يستطيع اقناع نفسه، ثم القيادة السورية، ثم العالم العربي، بأنه لم يقدم أي تنازل الى اسرائيل قبل ان تعطي التزاماً واضحاً بانسحاب يعيد الكرامة الكاملة الى السوريين والعرب. من هنا فإن التباعد الشخصي والنبرة الغاضبة من الشروط الضرورية بالنسبة الى الأسد لإبراز الفرق بينه وبين القادة العرب الذين يتهمهم بالخيانة. من الواضح ان حزب الله ما كان له ان يصعّد من هجماته القاتلة على الجيش الاسرائيلي من دون كلمة من الأسد. اذ لا شيء يحصل في لبنان، على صعيد الداخل او الخارج، من دون موافقته. وهكذا فإنه يعتبر التصعيد هناك عنصراً جوهرياً في ادعائه انه يبقى، رغم ما أوحت به الوثيقة الأميركية من استعداده للتنازل أمام الاسرائيليين، المدافع الصلب والموثوق عن الكرامة العربية. يبدي كثيرون في الولاياتالمتحدة واسرائيل الاستياء من المعاملة الخاصة للأسد من جانب باراك. ويتساءلون عما يدعو اسرائيل الى القبول بتصرفات الأسد والشرع المهينة كشرط للتوصل الى السلام. لاسرائيل، بالطبع، ان ترفض "سوء الخلق" السوري هذا. لكن السبب في أهمية السلام مع سورية بالنسبة الى اسرائيل، وليس على الصعيد الثنائي فحسب بل الصعيد الاقليمي عموماً، هو بالضبط أن حافظ الأسد "أشرس شقي في الحارة". ولو كان مجرد "انسان طيب" لما كان العرب يتطلعون اليه للقرار حول التطبيع مع اسرائيل. الظاهر ان بارك يفهم تماماً شخصية الأسد ووضعه، حتى لو لم يفهم ذلك اعضاء حكومته والرأي العام الاسرائيلي. ورغم القصف لمحطات الكهرباء في لبنان - مع الحرص على عدم ايقاع خسائر بين المدنيين - فهو يصرّ على رفض الضغوط من حكومته والرأي العام لتوجيه ضربات انتقامية كبرى. السبب هو انه لا يزال يعتقد بجدية التزام الأسد خيار السلام. كما يدرك باراك ان استمراره في كتم موافقته على الانسحاب الى خط حزيران 1967 يضعف موقف الأسد. ويتفهم حاجة الرئيس السوري الى استعادة صدقيته في العالم العربي لكي يتمكن من التوصل الى سلام مع اسرائيل. لا يعني ما اقوله هنا ان ا سرائيل تصرفت بحكمة عندما قصفت البنية التحتية اللبنانية، لأن ذلك لم يؤد حتى الى وقف هجمات حزب الله. ولاحظ المعلق نسيم كالديرون في عدد 17 من الشهر الجاري في "يديعوت احرونوت"، وهي الأوسع انتشاراً في اسرائيل، أن "آخر ما نريده الآن ان ندعم صورة اسرائيل كقوة عظمى تستطيع شلّ الحياة في اي مكان في الشرق الأوسط. من الصحيح ان الجيش الاسرائيلي حرص على تجنب سقوط قتلى. لكن القصف كان، على صعيد الرمز السياسي، عملاً سلبياً تماماً... لم يكن مفيداً على المدى القصير وهو مضر على المدى البعيد". اذا صحّ هذا التحليل فإن باراك قد وضع نفسه في موقع محرج تماماً. انه يعرف المطلوب اذا كان للمحادثات ان تعود. ويعرف ايضاً، مع أخذ الرأي العام الاسرائيلي في الاعتبار، انه اذا وافق في هذه المرحلة المتأخرة على الشرط المطلوب للتوصل الى اتفاق فإن ذلك لن يؤدي الى الفشل في الاستفتاء فحسب بل الى سقوط حكومته وانهاء مستقبله السياسي. اضافة الى ذلك فإن باراك لم يحبذ أبداً فكرة الانسحاب الاحادي من لبنان واعتبر دوماً انها تنطوي على الكثير من ا لتهور. وعندما وعد أثناء حملته الانتخابية بالانسحاب الكامل في موعد لا يتجاوز تموز يوليو من هذه السنة إذ قصد ان يتم ذلك ضمن اتفاق مع سورية. مع ذلك لم يكن له أن يغلق الباب علناً امام احتمال الانسحاب الاحادي، معتبراً ان هذا الخيار يشكل ضغطاً على الأسد للعودة الى التفاوض. أما الآن فإن رد الفعل في اسرائيل على تصاعد خسائرها في جنوبلبنان سيضطره الى الانسحاب سواء تحقق الاتفاق مع سورية أو لم يتحقق. انه منذ زمن بعيد لم ينفِ ان فكرة الانسحاب بحلول تموز تشمل خيار الانسحاب الاحادي، ولذا فات أوان نفيها الآن. واذا نفاها سيعني ذلك سقوط حكومته. بالمقابل يعرف باراك ان للانسحاب الاحادي نتائج لا يمكن التكهن بها، من بينها ليس فقط انهاء امكان التوصل الى السلام بين سورية واسرائيل بل أيضاً استمرار عزلة اسرائيل الاقليمية. حافظ الأسد وايهود باراك يجدان نفسيهما في مأزق عميق. وليس ما يساعد على الخروج منه سوى ديبلوماسية أميركية خلاّقة ربما ينطوي هذ التعبير على تناقض!. ومهما كان الأمر فلا يمكن التوصل الى هذا الهدف الصعب عن طريق الاستمرار في اساءة فهم الرئيس الأسد. * زميل متقدم في مجلس العلاقات الخارجية، نيويورك. والمقال يعبر عن رأيه الشخصي.