قبل نحو 12 الف سنة عاشت قبيلتان من قبائل الهنود الحمر في قرى صغيرة متناثرة على ضفتي نهر "نياغارا" المشهور بضخامته وغزارة مياهه. وكان يعيش في النهر ثعبان اسطوري يكمن في اعماق المياه تارة ويخرج منها تارة اخرى ليعيث في الارض فساداً ويبتلع ما يصل اليه من الاطفال والنساء وحتى الرجال. وعندما اشرفت القبيلتان على الفناء تنادت الارواح وجمعت قواها وانطلقت فقتلت الثعبان بسهام فتاكة واستأصلت شأفته الى الأبد. وتعتبر جملة الاحداث المأسوية والخاتمة السعيدة التي عاشها اجداد قبيلتي "ساناكا" و"يونندادي" القدماء بمثابة الفصل الاول من رواية تراثية يتداولها احفاد هاتين القبيلتين مشافهة حتى الوقت الراهن. ويؤكد احد شيوخهم، بايمان عميق، ان روايتهم ليست مجرد اسطورة تحاكي اسطورة وحش بحيرة "نيس" في اسكتلندا او اسطورة وحش بحيرة "شامبلين" التي لا تبعد كثيراً عن نياغارا. وقد يحرج المرء امام احداث هذا الفصل الاول لكن حرجه سيتضاعف امام ما سيأتي لاحقاً في الفصل الثاني. بديهي ان نهر "نياغارا" شهد، ومعه معالمه الجغرافية والسكانية والسياسية، الكثير من التغيير بمرور السنين. وهو يشكل اليوم منطقة حدودية بين الولاياتالمتحدة وكندا ومع ذلك لا تزال قبيلة "ساناكا" على الاقل تعيش في موطنها الاصلي وتتمسك بتقاليدها وتروي موروثها ومنه رواية الثعبان الاسطوري وما احدثه مقتله من افعال واحداث ترسم صورة مثيرة لتاريخ واحدة من الظواهر الطبيعية البديعة المعروفة باسم "شلالات نياغارا". وتعد شلالات نياغارا احد اشهر المعالم السياحية في العالم. ومن المؤكد ان اجداد الهنود الحمر لم يكونوا سياحاً بالمعنى المتداول للكلمة الا ان احدث النظريات الديموغرافية يزعم ان القبائل الآسيوية التي اصبحت تحمل هذا اللقب عبرت "مضيق بيرينغز" الى العالم الجديد قبل نحو 30 الف سنة، ما يرجح احتمال انهم كانوا اول من وقع نظره على الشلالات، وهناك احتمال آخر في ان يكونوا شهدوا فعلاً تشكلها في مجرى نهر نياغارا بدليل ان رواياتهم تحمل الكثير من الدقة في الوصف والتعليل. ولكن روايات الهنود الحمر تجسد ايضاً الكثير من معتقداتهم الدينية. وروى الباحث "فالكون هارت" ل"الحياة" ان ابناء قبيلة الساناكا لا يملكون ما ينبئهم بطبيعة المعتقدات التي حملها اجدادهم من موطنهم الاصلي كما ليس لديهم ما يشير الى ان معتقداتهم بدأت فطرية ام مستوحاة لكنهم كانوا يعتقدون ان هناك خالقاً في السماء وانه كما خلقهم وبث في كل واحد منهم روحاً كذلك جعل لكل كائن روحاً، سواء كان هذا الكائن حيواناً ام نباتاً ام جماداً. والمثير ان الارواح عند الهنود الحمر لا تمتاز عن بعضها البعض بنوازع الخير او الشر وهم يعتبرون هذين المصطلحين غريبين على حضارتهم ومعتقداتهم. وعندهم ان الارواح كلها معنية ب"رد العدوان" كما حدث في حال ثعبان نياغارا. ويعتقد هارت ان اجداد الساناكا ويونندادي لم يختاروا الاقامة على ضفتي نياغارا عبثاً، اذ يؤمنون بقوة ان النهر يمتلك صفات سحرية وقوى خفية كان لها اثر بالغ على حياتهم اليومية. ويتمتع نياغارا حقيقة بمغريات قادرة على اجتذاب الهندي الاحمر والسائح على حد سواء، اليوم كما في الماضي، اذ يقع النهر في منطقة البحيرات الكبرى وهي عبارة عن سلسلة متصلة من خمس بحيرات ضخمة تشكلت في نهاية العصر الجليدي وتعتبر اجمل واضخم مخزون من المياه العذبة في العالم. ويلعب النهر دور حلقة الوصل بين البحيرتين الاخيرتين في السلسلة: بحيرة "إري" على الجانب الاميركي من الحدود الدولية وبحيرة "اونتاريو" التي تعطي مدينة تورونتو الكندية المقامة على ضفافها الكثير من سحرها. ويبدأ النهر عند مصرف طبيعي ضخم عند الشاطئ الشرقي لبحيرة "إري" ويبلغ عرض المجرى عند مبتدئه زهاء 900 متر ثم يتسع باطراد وينحدر تدريجياً ليعطي مياهه تسارعاً متزايداً وقوة تتعاظم باستمرار حتى تبلغ مصبها الاخير في بحيرة اونتاريو. وتقع البحيرة الاخيرة على مسافة 58 كيلومتراً من شقيقتها الا انها تنخفض عنها بمسافة مثيرة لا تقل عن 99متراً. وثمة اتفاق بين خبراء الجيولوجيا على ان مياه النهر التي تتدفق بمعدل خمسة آلاف طن في الثانية الواحدة قادرة على احداث الاعاجيب في مجراها. وروى هارت في احداث الفصل الثاني كيف تشكلت احدى هذه الاعاجيب: "عندما نجحت الارواح في تخليص اجداد الهنود الحمر من المعتدي. جرفت مياه النهر الثعبان المقتول وتقاذفته بقواها السحرية لكن جسده كان ضخماً وثقيلاً بما يفوق التصور. ولم يحتمل قاع النهر طويلاً فتهاوى بالشكل الهلالي المكتمل الذي اتخذه جسد الثعبان على امتداد المجرى في اللحظات الاخيرة وتشكل بذلك مسقط الشلالات بحرفه الحاد المدبب الذي تراه اليوم مع اكوام الصخور الهائلة عن القاعدة". ويقدم خبراء الجيولوجيا تفسيراً آخر ملخصه ان مياه النهر ساهمت بثقلها الهائل وقوة اندفاعها في حدوث انهدام في مجراها وتشكلت بذلك شلالات نياغارا. ولكن لا بد من الاشارة الى ان الهنود الحمر يتمسكون بتفسيرهم التراثي ليس بدافع التنكر للحقيقة العلمية وانما تحمس للدلالات الرمزية التي تحملها روايتهم. اذ يعتقدون ان الارواح التي خلصت اجدادهم من خطر الثعبان في قديم الزمان لا تزال تعيش خلف الشلالات ولا تزال تقدم لهم مثالاً تراثياً على ان "هناك مجاهيل يمكن ان تلحق الاذى بالناس وهناك في المقابل قوى من كل الانواع قادرة على ان تجتمع على مسعى خير وهدف نبيل مثل الحفاظ على الشعب من مخاطر الفناء". وبغض النظر عن التباين المسلي في التفسيرين التراثي والعلمي يبقى المهم ان الحدث الاعجوبة وقع قبل 12 الف سنة وتشكل بنتيجته مسقطان الاول على شكل هلال مكتمل ويقع على الجانب الكندي من الحدود الدولية، والثاني مستقيم ويقع على الجانب الاميركي. والمسقطان متجاوران تفصل بينهما جزيرة صغيرة تقوم في وسط المجرى لكنهما حادان فلا تجد مياه النهر من مفر سوى الاندفاع في الهواء افقياً بقوة رهيبة ومن ثم الاستسلام لقوى الجاذبية التي تهبط بها لمسافة 45 متراً في مشهد بديع لا ينسى. وتقليدياً قد يعني القيام بزيارة اطلاعية او ترفيهية الى موقع شلالات نياغارا الوقوف على الجانب الآخر للانهدام في يوم من ايام الصيف الساحرة التي اشتهرت بها هذه المنطقة من العالم ومشاركة آلاف السياح والزوار متعة النظر الى مياه فضية متلألئة تتدفق جبالاً وتهوي بدويّ هائل يثير في النفس احاسيس الرهبة والانبهار في آن واحد. ولكن مسقطي المياه الكندي والاميركي اللذين يمكن مشاهدتهما معاً من الجانب الكندي فقط ليسا كل ما تقدمه شلالات نياغارا للزائر. وبداية تقع شلالات نياغارا عند ملتقى الحدود القائمة بين ولاية نيويورك الاميركية ومقاطعة اونتاريو الكندية. وتعتبر مدينة نيويورك على الجانب الاميركي ومدينة تورونتو على الجانب الكندي اقرب المدن الرئيسية الى موقع الشلالات لكنهما ليستا قريبتين بما يمكن سكانهما من القيام بزيارة خاطفة او حتى يومية والظفر بمتعة مقبولة. ولعل الخيار الأسلم يكمن في تخصيص ايام عدة اقلها يومان في حال كانت تورونتو هي نقطة الانطلاق وثلاثة ايام بالنسبة الى نيويورك، واستخدام سيارة خاصة او مستأجرة سيزيد بالتأكيد متعة الاقامة. واذا كانت تورونتو نقطة الانطلاق ووقع موعد الزيارة في نهاية شهر تموز يوليو فهناك تجربة مثيرة يجب ألا تفوت الزائر اذ تشتهر منطقة الشلالات بزراعة الوان من الزهور الفواكه التي لا يجدها المرء في الكثير من المناطق الاخرى. وفي الغالب تسهل مغادرة الطريق السريعة ودخول المزارع التي تقيم اسواقاً صغيرة عند بواباتها وتعلن بوضوح عن ترحيبها بالزوار. واذا لم يجد الزائر ما يكفي من الجرأة لمناقشة البائعات الفاتنات في الاثمان فلن يخسر شيئاً، والكنديون عموماً متهاودون في مسألة الاسعار. وبعد زيارة المزارع ستصل الى غايتك حين تجد نفسك في شوارع مدينة صغيرة صاخبة تبدو للوهلة الاولى اشبه ما يكون بمدن الملاهي. والحقيقة ان هذه المدينة التي يطلق عليها اسم "نياغارا فولز" منتجع سياحي على الطراز الاميركي فالى جانب احياء الملاهي والالعاب المصممة خصيصاً للعائلات والاطفال ستجد فيها احياء متوسطة وفنادق بأسعار معقولة وخدمات مقبولة كما ستجد فيها احياء هادئة راقية للسكنى والفنادق الفخمة والمطاعم الراقية وكل ما يمكن ان يضمن للزائر وقتاً طيباً. في ذلك الوقت ستكون اكتشفت مكان الشلالات لأن هديرها سيستقبلك اينما كنت في وسط المدينة. وربما القيت النظرة الاولى عبر زجاج غرفتك في برج فندقك الفخم اذ ان جزءاً كبيراً من مدينة "نياغارا فولز" مقام على قمة منحدر ينتهي عند الحاجز الغربي للانهدام الضخم الذي يضم الشلالات في طرفيه الجنوبي والشرقي. او لربما فضلت القيام بزيارة اولية اكثر حميمية وعندها لن يتطلب الامر منك اكثر من تجنب نسيان آلة التصوير. اما ماينتظرك في محيط الشلالات فحتى سنة 1874 كنت ستجد المكان يغص بالاكشاك والباعة المتجولين والمحتالين والمشعوذين ولم يكن لتتوافر لك اي فرصة حقيقية لمشاهدة الشلالات. وثمة اختلاف كبير حدث مذ انشئت لجنة كندية لادارة الموقع فأخلت المكان واقامت حديقة ضخمة تزيد مساحتها على 60 هكتاراً، ومعها طريق سياحي يمكن الزائر من القيام بجولة بالسيارة على طول الانهدام والشلالات، والصعود الى مجرى نهر نياغارا. ويقول مسؤولو اللجنة ان عداداتهم ترصد دخول نحو 14 مليون زائر الى موقع الشلالات سنوياً وهذا يعني ان ما لا يقل عن مئة الف زائر يمكن ان يتواجدوا في الحديقة دفعة واحدة يومياً في موسم الذروة. وليس من المستبعد في هذه الحال ان يفاجأ الزائر بالازدحام ولكنه لن يجد ذلك مدعاة للقلق، بل على العكس تماماً اذ ان تواجد اعداد غفيرة من مختلف الشعوب يزيد من حيوية المكان ولا سيما مع توافر عناصر الامان في شكل ملحوظ. وتؤمن الحديقة وتوسعاتها الحديثة تسهيلات لممارسة نشاطات متنوعة مثل لعبة الغولف علاوة على عدد من المتاحف والقصور ومعارض الزهور والفراشات، وهناك ايضاً اماكن مثيرة مخصصة للتخييم التقليدي او بواسطة "الكرافانات" وهي متاحة للايجار عبر شركات خاصة تقوم مقراتها في المدينة. وفي المساء تقدم الفرق الموسيقية حفلات مجانية على ربوة مطلة على الشلالات. وتقام في امسيات معينة من الاسبوع وغالباً مساء الجمعة مهرجانات للألعاب النارية المصحوبة بالموسيقى. وعندما يأتي دور الشلالات فهناك تسهيلات متنوعة تجعل من الزيارة تجربة متميزة حقاً، وبعض هذه التسهيلات ظاهر ومتاح للجميع لكن بعضها الآخر مخفي ويحتاج الى الكثير من الجرأة وحب المغامرة. ومن التسهيلات الظاهرة هناك سلسلة من المنصات والابراج المقامة على حافة الانهدام وهذه تتيح زاوية معقولة للتمتع بمشهد الشلالات والتقاط الصور وربما القيام بزيارة الى مجمع صغير للأسواق يقوم في الجوار حيث يمكن شراء الهدايا التذكارية والخدمات العامة. وتبدأ الاثارة فعلاً بالهبوط الى البحيرة الضخمة التي تشكلها الشلالات اسفل مساقطها. وهناك مصاعد كهربائية تحمل الزوار الى الاسفل ولكن ليس هناك ما يخفف وطأة تلك اللحظة التي يخرج فيها الزائر ليجد نفسه وجهاً لوجه امام مغامرة ربما سيتردد في خوضها عندما ينظر الى الاعلى ويدرك حقيقة هذه الاعجوبة التي تسمى الانهدام. وسيزيد من وطأة اللحظة الاحساس الكاذب بقرب الشلالات وذلك نظراً الى ضخامتها واشتداد حدة هديرها. والمؤكد في اي حال انك لن تتردد وستركب القارب الكبير الذي سيحملك في جولة الى صدر الشلالات. وفي حال خرجت من جولتك الاولى مبللاً فحري ألا يمنعك ذلك من متابعة الرحلة الى اماكن مثيرة من اعماق الارض. ولا علاقة لهذه الرحلة بما يعتقده الهنود الحمر عن الارواح واماكن تواجدها ولكنها ستحملك عبر سلسلة من المصاعد الكهربائية والانفاق والممرات والحجرات لتصل بك في نهاية المطاف الى حيث يمكنك رؤية الشلالات من الخلف وما يفعله هديرها في الصخور والجدران الاسمنتية. وفي اعماق الارض ستخوض حقاً مغامرة فريدة من نوعها اذ انك ستلمس بيدك كيف يتحول الماء العذب الى قوة مذهلة. وهناك تسهيلات من نوع خاص تتطلب ايضاً شيئاً من الجرأة لكنها تضيف الكثير الى متعة الزائر. ومنها القيام بجولة جوية فوق موقع الشلالات والاماكن المثيرة الاخرى من الانهدام الذي يمتد بطول 11 كيلومتراً باتجاه بحيرة اونتاريو. وتنطلق الرحلة الجوية - وهي غالباً على متن طائرات حوامة من نوع "بيل" - من موقع في المدينة وتتيح لسلة متتابعة من المشاهد البانورامية البديعة وربما الخطرة وتستغرق 12 دقيقة. ويمكن خوض مغامرة مشابهة في عربة معلقة تحمل الزائر عبر الانهدام على ارتفاع يزيد قليلاً على 500 متر. وليس من الضروري ان تنتهي زيارة "نياغارا فولز" داخل محيطها اذ ان الطريق السياحي الذي يبدأ في حديقتها يمتد على طول مجرى نهر نياغارا ويقود، على سبيل المثال، الى الشواطئ الرملية التي اشتهرت بها بحيرة "إري". ويبقى المثير حقاً ان شلالات نياغارا هي احد اضخم المعالم السياحية ومصادر الدخل السياحي في اميركا الشمالية، لكنها ايضاً ثروة اقتصادية مهمة تذكر باعتقاد الهنود الحمر بتلك القوى السحرية التي يمتلكها نياغارا.