السبت 5/2/2000 - تلخيص البلاد، أعراس التراث: حين هبطت بنا الطائرة في مطار الرياض، كانت لا تزال تتجاوب في أجوائها أصوات قيثارات الجزيرة السبعة المعاصرين، في مغناة "أمجاد الموحّد"، التي افتتح بها النشاط الفنّي لجنادريّة هذا العام، وهم: طلال المدّاح ومحمد عبده وعبدالمجيد عبدالله وعبادي الجوهر وخالد عبدالرحمن ورابح صقر وراشد الفارس... لكأنّ مسرح الأضواء في قرية الجنادريّة، كان لا يزال يموج بهذه الأوبرا الغنائية، التي اقترن فيها الصوت بالشعر بالموسيقى بحركات الرقص وحركات خيال الظل... فاشتعلت الصحراء بالصوت ثم اخضرّت، والصوت كان ولا يزال في نجد والحجاز، كما هو الشعر، صاحب فتوحات في النفس البشريّة، من ابن سريج والغريض وابن محرز ومعبد، حتّى... طلال المدّاح ومحمد عبده وعبدالمجيد عبدالله... ومن عمر بن أبي ربيعة أو قيد العرب حتى اليوم. يصف سيّد درويش فعل الغناء في النفس البشريّة، فيصوّره شبيهاً بفعل المغناطيس في الإبرة المعدنية. وأبو الفرج الأصفهاني ينقل في كتاب "الأغاني" أخبار "مَعْبد"، سيّد الغناء في الحجاز والمدينة في وقته، وأنه صنع "الأصوات السبعة"، التي أُطلق عليها اسم "مدن معبد" أو "حصون معبَد"، قيل انه سمع أن قتيبة بن مسلم فتح سبعة حصون أو سبع مدن في خراسان داخل سبعة حصون كانت صعبة المسالك، فوضع على غراره سبعة ألحان صعبة، بل أشدّ من فتح تلك الحصون، على حدّ قوله، وهي فتوح في الغناء لا تقلّ عن فتوح البلدان. يصدف أن تكون أصوات مغناة "الموحّد" أيضاً، في الجناردية، اليوم "سبعة"، على غرار "حصون معبد". لكن الجنادرية تتسع لأكثر من هذه الأصوات. فهذه القرية التراثية التي تجلس باطمئنان في الأيام العادية، على أطراف مدينة "الرياض"، تختلج في أيامها ولياليها الإثني عشر، الاستثنائية لهذا الموسم، مما يجعل منها أكثر من مدينة... بل يجعلها تتسع على اتساع مملكة، إن مليوناً من الأشخاص، قدّر أنهم دخلوا اليها وتجوّلوا فيها، وخرجوا منها خلال هذه الأيام. واحتشدت في ساحاتها وتحت الخيام أجنحة البلاد من شرق المملكة الى غربها، ومن الشمال الى الجنوب، من القطيف والطائف حتى حائل، ومن حفر الباطن الى نجران، ومن مكة والمدينة، الى الظهران... لقد زحفت أطراف المملكة الى هذه القرية، بعاداتها وأزيائها ورقصاتها وأمثالها الشعبية، كما زحفت بمحاصيلها وطيوبها وخيراتها، ومشغولاتها اليدويّة القديمة والجديدة، بأناسها وماشيتها وطيورها أيضاً، لتجلس في قرية شعبية، مزينة كأنها عروس، حيثُ ستتجاور عروض صقور المناطق الشرقية، مع عروض سباق الهجن ورقصات العرضة. إن في الجنادرية، ما يشبه تلخيص البلاد في مكان واحد وقريةٍ واحدة... ثمة وصلُ وجود بين الناس. يأتي الأطفال ليتعرفوا على ماضيهم. ويأتي الرجال ليشتركوا في رقصة العرضة، حيث السيوف في الأيدي والأكتاف ملزوزة للأكتاف، ويتحرك صفّ العَرْضة كأنه فيلق حربي على ايقاع ضارب الطبل في الوسط. الكوفيات تلثّم الوجوه والعقل تتوج الرؤوس، واللباس الأبيض الطويل يجعل الأجساد متشابهة، وهي تنحني وتتحرك، في هذا الفولكلور الشعبي العريق، الذي لا ينافسه سوى فولكلور "السامري"، حيث يبتدىء الرقص بالسيوف، بإلقاء قصيدة شعبية بالنَبَطيّة... يتجاوب معها الحضور طرباً أو استثارة، ويجيبون عليها في ما يشبه السجال الشعري، المرافق لسجال الرقص وحركاته. في الساحة الفسيحة، الى جانب القرية، حشد كبير وأصوات ابتهاج وحماسة، انه سباق الهجن، الذي يفتتح به نشاط شعبي من أطراف نشاطات الجنادريّة. فالتراث هنا يحضر بكامل عدته ورموزه: الجمل، في رالي الصحراء، العابر للأزمنة والأصوات الكونيّة، وفوقه، على مؤخرته، فوق قذاله، يقبع راكبه ملتصقاً به التصاقاً يجعل من الإثنين كتلة واحدة منطلقةً في المدى كالسهم، أو كأنّ المتنبي يستعيد في هذا المشهد قوله: "نحنُ قومٌ مِلْجنِّ من الجنّ في زِيِّ ناسٍ فوق طيرٍ لها شخوصُ الجِمالِ" وسيارات الصحراء تنطلق بسائقيها المتبارين، مثيرة الغبار وحماسة الجمهور، أكثر من أي سباق لأحدث أنواع السيارات أو الدراجات الحديثة... حَسَناً هنا التراثُ يحتفل بذاته، في مهرجانٍ يقام نصفه على الأقل، كلّ عام، على اسم التراث. فالجنادريّة، ليست سوى "المهرجان الوطني للتراث والثقافة". الأربعاء 9/2/2000 "الإسلام والشرق" - "نهر العولمة" في الوقت الذي كان يعلن روجيه غارودي من القاهرة، في محاضرةٍ له خلال معرض الكتاب، أنّ "الإسلام هو دين القرن المقبل" وأنّ "الولايات المتحدة الأميركية تمثّل طليعة الانحطاط، وهي "ليست أكثر من نمرٍ من ورق"، كانت قاعة الملك فيصل الرئيسية للمؤتمرات، في فندق الكونتيننتال، تحتشد بالمحاضرين والمنتدين وجمهور كبير من المثقفين، ليشاركوا في المحاور الفكرية لجنادرية هذا العام المعقودة تحت عنوان: "الإسلام والشرق". والحال أنه بعد أن كان المحور الفكري للجنادريّة 13 في العام الأسبق "الإسلام والغرب"، حيث نوقشت في حينه أفكار فوكوياما وهنجتنتون، حول نهايات التاريخ وصراع الحضارات، وألقى الأمير تشارلز وليّ عهد بريطانيا محاضرة حول فن العمارة الإسلامية، وضرورة أن تأخذ الهندسة المعمارية المعاصرة في الولايات المتحدة الأميركية والغرب واليابان، بشيء من روحيّة الفنّ الإسلامي، تُصَحّح به "ماديّتها" كما ورد في المحاضرة، فإنّ جنادريّة هذا العام استكملت حلقتها حول الإسلام، بمحور "الإسلام والشرق"، والمنتدون المحاورون هم من كلّ أنحاء الشرق الإسلامي على العموم، من أكاديميين وباحثين من المملكة، ومصر، وسورية، والعراق، والإمارات، من أمثال محمد جابر الأنصاري وعبدالهادي أبو طالب وحمود النجيدي وأحمد كمال أبو المجد وابراهيم المطرّف، وأحمد عبدالله السالم وأحمد الزهراني وسواهم. كما دُعي ظفر الإسلام خان من دلهي، وقيتالي ناؤمكن من موسكو، ومحمد رمضان أختار من باكستان، ومحمود زهدي عبدالمجيد من كوالا لامبور في ماليزيا، وأمين تشاو قوه تشونغ من الصين وحامد تشوي يونغ كيل من كوريا الجنوبية سيئول... وهذا هو الشرق بشكل عام، الأقصى والأدنى والأوسط، مجتمعاً في الرياض من خلال هذا العدد من مفكريه وأكاديمييه الإسلاميين المميزين، لكي يحاضروا ويتناقشوا في مسألة "الإسلام والشرق". سيكون من اللافت للانتباه، أنه في فضاء المحاور والمناقشات، ارتفعت مقولة "حوار الحضارات لا تصادمها"، وكأنّ مقولة هنجتنتون في صراع الحضارات كانت مطروحة للنقاش بشكل جوهري في قاعة المحاضرات... بل لعلّ محاور النقاش جاءت لهذا العام استكمالاً لما كان طرحه في العام الأسبق في إطار "الإسلام والغرب" الباحث السويدي السفير "انجمر كارلسون" مدير التخطيط بوزارة التخطيط السويدية، حول ضرورة المصالحة بين الغرب والإسلام، وردم الفجوة القائمة الحقيقية أو المتوهمة، من الخوف والريبة والعزل والاضطهاد، فكارلسون يدعو الغرب للاعتراف الهادىء بالإسلام كدين محلي في الغرب ذاته، على غرار المسيحية واليهوديّة... ذلك ما شرعت فيه، على سبيل المثال، فرنسا هذا العام... وهو ما يقتضي تعميمه على أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. ذلك ما يراه أيضاً أحد المحاضرين، الدكتور أحمد كمال أبو المجد، فهو لا يرى أن الإسلام هو بالضرورة خصم لأوروبا الغربيّة وللولايات المتحدة الأميركية، إذْ في الإمكان استبدال "صدام الحضارات" بحوار الحضارات، كما يرى. وهذه الدعوة لعلاقة جديدة من المصالحة بين الإسلام والغرب اليوم، ليست بعيدةً عن ذاكرة العلاقة التاريخية بين "الإسلام والشرق"، فهذه العلاقة تعود الى ألف وثلاثمائة عام خلت على وجه التقريب... استطاع فيها الإسلام أن يحتك بأهم حضارات العالم القديم، وأن يمتصّ الحضارتين الفارسية والهندية، وكان له أثر كبير في شبه القارة الهندية، كما قال ظفر الإسلام خان، متجاوزاً ذلك الى تايلاندوماليزيا وأندونيسيا والبنجاب والبنغال باكستان وبنغلادش... أما أثر الإسلام في الصين فقد كان قليلاً لأسباب تاريخية وجغرافية... إلا أنّ ذلك لم يمنع من أن يشكل الإسلام والشرق حلقة وصل بين حضارات الإنسان في العصور القديمة وحضاراته في العصور الحديثة... كل ذلك حصل في تاريخ علاقة الإسلام بالشرق والغرب... فلماذا الخوف من العولمة اليوم؟ العولمة... العولمة... لا بد من العولمة اليوم، على لسان كل مثقف، وفي كل ندوة تقام، وفي الجامعات والمقاهي والصحف والكتب، "فنهر العولمة"، كما سماها أحد المحاضرين، جارف وطامٍ، ولا بد من محور حوله. أما المحور فهو "العولمة والوطن العربي". همس في أذني الدكتور نقولا زيادة، ونحن في بهو فندق قصر الرياض الذي استضافنا خلال المؤتمر، عشية ندوة الجنادرية عن "العولمة..."، أنه سيذهب الليلة الى الندوة، لكي يقول للمحاضرين: نعم، ثمة خطر علينا من العولمة... فانتبهوا. وحين افتقدته في الندوة، لم أجده. قال لي في اليوم التالي انه لم يحضر لأنه دعي الى العشاء... فلبّى الدعوة. وما أدراك؟ لعلّ عشاءً طيّباً أجدى من ندوات العولمة. ذلك لم يمنع أنّ الندوة حفلت بآراء المنتدين فيها. فالدكتور محمد جابر الأنصاري دعا الى الخروج من "التنظير الخائف" الى التفاعل الواثق مع معطيات العصر، "فنكفَّ في خطابنا العربي عن"، "عزف هذه الاسطوانة المشروخة": أميركا قوّة امبريالية... اسرائيل جمعيات انسانية خيرية "فهل يصحّ أن ننتظر منهما علب الحلوى وباقات الزهور؟"... فالعولمة كما يرى الجابري، قديمة، من أيام الرومان... وهي اليوم ليست احتكاراً أميركياً أبدياً بل هي أيضاً ميزة يابانية وأوروبية، فلماذا لا تكون عربية؟ وإذا كان الأنصاري قد بسط العولمة بهذه الصورة، فعبدالعزيز الداغستاني ركّز على العولمة المادية، فهي الجانب الأكثر وضوحاً وضغطاً في صراع الحضارات وتقسيم العالم الى قسمين: عالم الشمال المتطور وعالم الجنوب التابع والمتخلف. ان العولمة هي غزو الشمال للجنوب كما قال المتحدث الثالث محمد السيد سليم. أما مصطفى عبدالغني فجاء العولمة من باب اللغة والأدب... وطرح شيئاً من مفرداتها وأوصافها مثل "غياب المعنى" و"تسليح الأدب" و"ظاهرة التشظّي" و"العنصر التكنولوجي" والعولمة والتعريب والتنميط والأسلبة... والترميز التكنولوجي، ولغة الكمبيوتر... وسواها. وقد انفضّت ندوة العولمة في الجنادرية، وبقي في النفس شيءٌ منها، حتى كأنّها "حتّى..."، التي مات سيبويه وفي نفسه شيء منها. ولست أدري حتى الآن، ماذا كان سيضيف الصديق الدكتور نقولا زيادة، على ما قيل. السبت 12/2/2000 - أمسيات الشعر حين كنتُ في الطائرة الى هناك، كان قلبي في مكان آخر. كان الطائر أفلت من القفص، وحلّق في موازاة فلك الطائرة. كان اثنان يطيران في السماء الى الرياض: الطائرة والطائر. والشعر حين يحطّ في قاعة المؤتمرات المرتبة الكبيرة ذات الأدراج، فلكي يوضع في مواجهة مزدوجة: مع نفسه ومع الآخرين. وأمسيات الشعر في الجنادريّة، كانت أربعاً: اثنتين للفصحى وأثنتين للعامية الشعر النَبطي... والافتتاح كان مجلجلاً للنبطي والجمهور كان يستجيب له استجابات مقطعية ب"إيْه". كانت عُدّةُ شعراءِ العامية كاملة. "فرسان الأمسية" سُمّوا في الصحافة. والاحتفال الشعبي بهم جاء ليشير الى علاقة حميمة بين الشعر النبطي والناس، يفتقدها شعراء الفصحى وينظرون لخسرانها. لعلّ ذاكرة هذا الشعر الشعبي هي ذاكرة الناس، ولغته هي لغتهم، ولعلّ لسيادته أسباباً أخرى... فإن رعايته رسمية، على سبيل المثال. والفصحى العربية، تجاه المحكية، في تراجع. كان ذلك مدعاةً لشكوى ما من عدد من الأدباء والنقّاد... بل لخوف وأسف. وبكامل عدتهم جاء شعراء العامية الى الأمسية. وصف أحدهم "خالد المريّجي" أمسيته بأنها "أمسية العمر" وهو "ينتظرها من أعوام" ووعد الجمهور بأنه سيقدم أمسيته "بشكل مختلف"... وأنه سيوزع ديوانه قبل الأمسية ويوقعه بعدها... ذلك ما لم يفعله أيٌ من شعراء الفصحى. عبدالله عبيان قال انه استعدّ للأمسية. أما ناصر السبيعي شاعر شعبي من الكويت فقد لوّن في شعره بين العامية والموزون الفصيح في القصيدة الواحدة. وله البيت الجميل التالي: "قالت لو حبيت غيرك وش تقولْ؟ / قلت أحبه يا بعد عمري معك" وقدّم رفاقه في الأمسية: الحميدي الحربي وعبيد الأزمع وطلال العتيبي، من أشعارهم، ما سماه الأزمع في بيت له "المعنى السمين". أما الصحافة المحلية فاحتفت بهم ونشرت مقاطع من قصائدهم بعنوان "قصائد الفرسان". وأمسيتا الشعر الفصيح تعثرت أولاهما بغياب سعدي يوسف واضطرار سيف الرحبي للعودة العاجلة الى مسقط، لسبب طارىء، ما أفقد الأمسية صوتين شعريين متميزين. أما الأمسية الثانية، التي احتشد لها جمهور حافل حسّاس ومثقف، لم تشهده الأمسية الأولى، واشترك فيها كل من أحمد عبدالمعطي حجازي من مصر ومحمد علي شمس الدين من لبنان والمنصف الوهايبي من تونس وعبدالكريم الرازحي من اليمن ومحمد الخياري من المغرب وعبدالله المعطاني من المملكة العربية السعودية. فقد اتسمت بمستويين من القول الشعري: مستوى متطوّر نابض بكل ما تنطوي عليه القصيدة العربية الحديثة من نبض وجودي حيّ كما في قصيدة مرثية لاعب سيرك لحجازي، أو من سخرية وطرافة لدى الرازحي تذكر بسخرية حسن عبدالله وطرافته، أو من جَدْل حرّ وابداعي للماضي بالحاضر كما في قصيدة الوهايبي عن أبي العلاء المعرّي... ومستوى محافظ ظهر لدى كل من الشاعرين الدكتور الخياري والدكتور المعطاني... ما دعا الناقد الدكتور سعد البازعي، لانتقاد النظم في بعض ما قدّم في الأمسية. فقد نعته بالتقليدية.