جاء رسولنا عليه الصلاة والسلام بمعجزته القرآن الكريم متحدياً العربَ فصاحةً وبياناً في أزهى عصور لغتهم العربيَّة، واختلط العربُ الفاتحون بغيرهم من الشعوب الإسلاميَّة، فدبَّ اللحن في لغتهم العربيَّة وشُوِّهتْ بمفردات دخيلة وبأساليب ركيكة مبتذلة بتأثير اللغات الأخرى، فلوَّوا ألسنتهم انحداراً من الأسمى للأدنى للتفاهم مع تلك الشعوب، كما يتفاهمون الآن مع الشعوب الآسيويَّة من أفغان وغيرهم، فافتقدت الفصحى جمالها وبيانها وقواعدها وأساليبها وسحرها اللغويَّ، حتَّى وُلدت لغة تكاد ألا تمتّ للغة القرآن بصلة وامتداد، وافتقد العربيُّ اعتزازه بلغته ليفقد ثقته بنفسه وبأمَّته كنتيجة حتميَّة وآثار ناتجة. وجاءت العولمة كوسيلة لنشر اللغة الإنجليزيَّة لتكون لغة العالم الوحيدة، وكخطَّة لسحق اللغة العربيَّة وابتلاعها، فهل نتيح للعولمة أن تفقدنا هويَّتنا العربيَّة دون أن نقاومها لغةً وثقافةً وفكراً؟، إذْ يفسَّر ما تمرُّ به لغتنا العربيَّة من أزمة بتأثير العولمة باعتباره جزءاً من محاولات الهيمنة على الأمَّة العربيَّة باستبدال هويَّتها بهويَّة توصف بالعالميَّة، وليت العربَ إذْ لم يكتشفوا مخطَّطات العولمة ويكشفوا أهدافها ليصدُّوا محاولاتها توقَّفوا عند هذه الغفلة، بل إنَّ من العرب من أسهم في تمرير معظم محاولات الهيمنة أو في تسهيل تحقيق أهدافها، وعموماً فمعظم أوجاع الأمَّة العربيَّة هي بفعل أبنائها وليست نتاجاً مباشراً لتأثيرات العولمة فقط، أو نتائج لما يتكئ عليه العرب بدعوى المؤامرة هرباً من واقعهم وتنصُّلاً من مسؤوليَّاتهم، فمن هذا ما تتعرَّض له الأمَّةُ العربيَّة من خلال برامج على شاكلة شاعر المليون وشاعر المعنى وشاعر الشعراء وغيرها مسبِّبة أوجاعاً لها في لغتها وفي فكرها وفي كيانها ووحدتها وأهدافها، برامج استثارت العناية الفائقة بالشعر النبطيِّ كمحور من خطَّة لمحاربة الفصحى استهدافاً للهيمنة على الأمَّة العربيَّة باستبدال هويَّتها، فأحيت الدعوات إلى العاميَّة التي قضي عليها حينما كانت تنطلق من خارج معقل الفصحى (جزيرة العرب)، دعوات استجاب لها شعراء نبطيُّون هدموا اللغة إعراباً ومفردات وأساليب وصوراً وبياناً، وخلخلوا الوحدة الوطنيَّة بنعرات قبليَّة استعادت ما كان يجري بين قبائلهم قبل وحدة الوطن على سبيل التفاخر بغزوة أو بنهب أو باستيلاء على بئر مياه أو مراعٍ أو غيرها، بل وتعرَّض تراث الأمَّة العربيَّة إلى قراءات جاهلة تناولت تاريخها وحضارتها الاجتماعيَّة والماديَّة فيما قبل التشتُّت القبلي، وامتدَّت إلى مبادئ ومعاني إسلاميَّة وإلى مواقف وقيم عربيَّة سجَّلتها الأمَّة أبَّان ازدهارها حضاريّاً، وسرقوا من حيث يعلمون ولا يعلمون صوراً شعريَّة وأفكاراً ومعاني لشعراء العربيَّة على مرِّ عصورها، يتشاتمون بشعر الرديَّة أو القلطة، بشعر يزرع شقاقاً وعداوة بين الشعراء أنفسهم من جهة وبين شعوبهم من جهة أخرى، وفي كلِّ ذلك تستنزف الأموال دعماً لأولئك ولبرامجهم وقنواتها، ومردود الوطن منها ما تولَّد من نعرات قبليَّة وما ظهر من نكوصٍ ثقافي وفكريٍّ، وانكشاف عن سطحيَّة واستغفال عكست سخريَّة تناولت وطننا باعتباره رمزاً فكريّاً وثقافيّاً عربيّاً. وتدور حوارات عن هذا المدِّ النبطي فكراً وشعراً واحتفالات في منتديات وجلسات وصحافة وقنوات فضائيَّة، فكثيراً ما يرد فيها بأنَّ ظاهرة ترديد مقاطع من قصائد نبطيَّة لشاعر ما أو تناقل أخباره لدليل شهرة بنيت بمنجزات شعريَّة أنتجت تأثيراً فكريّاً وشعريّاً لدى المتلقِّي، وكثيراً قيل بأنَّ الشعر النبطيَّ مصدر لتاريخنا السياسي والاجتماعي في عصور الجهل والأميَّة، وكأنِّي بأولئك يبرهنون بذلك على سلامة النهج ونزاهة القصد ويعدُّونه تميُّزاً في الحركة الثقافيَّة والفكريَّة، بل ويطالبون بوقوف المجتمع مهلِّلاً ومشجِّعاً وحافزاً على رعاية إبداعاتهم النبطيَّة، وأولئك المطبِّلون بل وشعراء النبط يعيشون بعقول تعود لمئات السنين في الماضي، عقول علاقتها بالحاضر علاقة اغتراب لا انتماء، فما زالوا يربطون بين الإبداع وبين عالم الجنِّ، وكأنِّي بأولئك الشعراء النبطيِّين والمطبِّلين لهم من خلال برامجهم أو صحفهم أو جمهورهم المحرَّك بالعصبيَّة القبليَّة وبالإقليميَّة يصعب عليهم فهم أنَّ الشهرة الحقيقيَّة هي ممَّا يعزُّ الوصول إليها في وقت قصير كما يحدث في أيَّامنا هذه مع الفقاقيع النبطيَّة، فالعمل المميز والإبداعيُّ هو ما يأخذ وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً ليصل بصاحبه إلى القمَّة، وحيث إنَّ إعلامنا هو القادر على حجب أمثال هؤلاء وإبراز من يستحقّ الظهور والشهرة، ومفكِّرونا وأصحاب الرأي هم من ينتظر منهم معالجة هذه الظاهرة الهدَّامة لكياننا الثقافي والفكري الذي بنيناه عبر عشرات السنين في بلادنا، وإنَّ السياسة العامَّة لدولتنا هي القادرة على الحلِّ من خلال إمساكها بشكلٍ كبير بوسائل صياغة وتشكيل الوعي للمواطنين، فالتعليم بأهدافه وتوجُّهاته هو الممثل الأوضح لهذه السياسة، لذلك فإنَّه ينتظر من الأمَّة والوطن الوقوف بحزم وجدٍّ لعلاج هذه الظاهرة، لا أن يسهم الإعلام بوسائله المختلفة بتشجيع أولئك وتناقل أخبارهم ودعواتهم، وأن توقف المدارس والجامعات انتشار الشعر النبطي في إذاعاتها الصباحيَّة واحتفالاتها كما هو ظاهر الآن. ولم يقف الأمر عند دعاة العاميَّة وحاملي رايات الشعر النبطي عند هذا، بل تطلَّعوا إلى ملتقيات المثقَّفين والأدباء، وملتقى سوق عكاظ وإلى الأندية الأدبيَّة وإلى الجوائز الوطنيَّة وغيرها ممَّا ترعاه وزارة الثقافة والإعلام في ضوء أهداف الوطن العليا في لغته وثقافته وفكره وتطلُّعاته وطموحاته حفاظاً على الهويَّة الوطنيَّة والعربيَّة، أولئك الذين تحرِّكهم مصالحهم الشخصيَّة الضيِّقة على حساب مصالح الوطن والأمَّة واللغة والثقافة، ويحرَّكون من أعداء الوطن والأمَّة لطعن وحدته وتماسكها ومقاومتها لمخطَّطات العولمة، ولا شكَّ في أنَّ دعاة العاميَّة وحاملي رايات الشعر النبطي لو حقَّقوا بعض أهدافهم في اختراق وزارة الثقافة والإعلام بمطالباتهم لسوف ينتقلون لمطالب أخرى منادين بإدخال نصوص من أشعارهم النبطيَّة في مناهج التعليم العام، وبافتتاح أقسام جامعيَّة تعتني بها وبعاميَّتهم، وسيطالبون وزارة الإعلام بقناة ثقافيَّة لرعاية توجُّهاتهم في ذلك، فهل سيتاح لأولئك أن تستغلَّ غفلتهم من أعداء الأمَّة العربيَّة ليمرِّروا علينا مخطَّطاتهم وأهدافهم ومطالباتهم؟!