يحاول عصام محفوظ، بطريقة مبتكرة وبالغة الاهمية، تقريب التراث العقلاني العربي الى المشتغلين عليه أو المهتمين به، وخصوصاً الاجيال الشابة من العرب الذين لم تتح لهم فرصة التثقف المعمق لمعرفة كنوز هذا التراث، في مختلف مجالات الابداع. وكانت باكورة أعماله في هذا المجال مقالات صحافية أعيد جمع أبرزها في كتاب صدر بعنوان: "حوار مع رواد النهضة"، والمقصود بذلك النهضة العربية. يقوم هذا الاسلوب المبتكر على تصور حوار شيق بين الباحث وكوكبة من أفضل الرواد العرب، فيقدم مادة معرفية افتقرت اليها أو تجاهلتها مناهج التربية في معظم الدول العربية. وبعدما لاقى هذا العمل الاستحسان المطلوب من ذوي الاهتمام بالتراث العقلاني العربي، تشجع الباحث لاصدار كتابه الجديد "حوار مع متمردي التراث". وليس من شك ان النجاح المرتقب والأكيد لهذا العمل قد يحمل المؤلف على متابعة مسار ثقافي كاد يتفرد به، وله فائدة كبرى في تقديم التراث بشكل مبتكر ومفيد للغاية. تضمن الكتاب الجديد تسعة فصول هي عناوين لحوارات طويلة مع نخبة متميزة من أبرز رموز التراث العقلاني العربي، وهم، تبعاً لتسلسل اسمائهم في الكتاب: ابن المقفع، الجاحظ، أبو حيان التوحيدي، أبو العلاء المعري، إبن رشد، السهروردي، ابن خلدون، رفاعة الطهطاوي، وعبدالرحمن الكواكبي. منذ البداية، حرص الباحث على التمييز ما بين الحوار المتخيل وكلام الرواد. فالحوار الصحافي متخيل بكامله، وميزه عن كلام الرواد على امتداد فصول الكتاب بحرف طباعي مغاير للحرف الذي طبعت به أجوبتهم. ويقول في مقدمة كتابه: "من هنا تقصدي جعل الحدود واضحة في أسلوبي بين المتخيل والواقعي وبين كلامي وكلام الشخصية التراثية، فليس من متخيل في حديثي الصحافي المتخيل سوى إقحام نفسي في زمن تلك الشخصية. وأما الحدود بين كلامي وكلام الشخصية فشديدة الوضوح: الاسئلة هي أسئلتي، كما يفترض بأي حديث صحافي، والأجوبة هي الأجوبة الحقيقية للشخصية التاريخية". لسنا بحاجة للتذكير بأن للكاتب الباع الطولى في تأليف مسرحيات متميزة ومعروفة في الوطن العربي. وقد ساعدته موهبة التأليف المسرحي على تصور حوارات رائعة جعلت الكتاب تكثيفاً علمياً دقيقاً للمقولات التراثية الاساسية لهؤلاء الرواد دون ان تغادر قط فضاء المعاصرة على رغم مرور قرون طويلة على وفاتهم. فبدا الحوار طازجاً وذا نكهة لطيفة جداً، مما جعل بعض المقولات التراثية التي انتقاها بعناية فائقة تبدو أكثر عقلانية من غالبية المقولات التي تكبل العرب اليوم في جميع أقطارهم. واذا كان المحاور صاحب فضل مشكور فالفضل الاكبر يعود لذويه، أي للرواد الذين قدموا مقولات عقلانية على درجة عالية من الدقة والصواب، ولا تزال تحتفظ بصدقية واضحة. وبدل ان يستفيد العرب، دولاً ومؤسسات ثقافية واعلامية، وباحثين ومراكز أبحاث من تلك المقولات التراثية العقلانية ليبنوا عليها نهضة ثابتة لا تحتمل الارتداد، بادروا الى قتل أو اضطهاد أو سجن أو إحراق كتب هؤلاء وعملوا على شطبهم من الكتب المدرسية، وقللوا من أهميتهم في التدريس الجامعي، ولاحقوا كل من حاول اعادة نشر تراثهم. تجدر الاشارة الى ان كلاً من هؤلاء الرواد شكل نموذجاً يحتذى لمن جاء بعده من العقلانيين العرب. فبدت اسماؤهم كصلات وصل بين مقولات حية تقدم الدليل الساطع على ان التراث العربي يختزن فكراً عقلانياً لا يقل أهمية عن أي فكر عقلاني في أي من دول العالم المتمدن. وان الفارق الوحيد بين الانظمة العربية والانظمة الاخرى ان الدول العربية تنكرت لتراث العرب العقلاني، وحاصرت تراث روادها، في حين ان الدول الاخرى استفادت من تراث روادها وجعلته حجر الزاوية في بناء صرحها الثقافي القائم على العقلانية، واحترام اصحاب الرأي المختلف. نماذج من المقولات حفل التراث العربي بالكثير من المقولات العقلانية التي لم تفقد بريقها حتى الآن وما زالت تشكل لبنات صالحة لبناء دولة عصرية تستند الى العقل أولاً واخيراً. فهذا ابن المقفع يقول "العقل! أفضل ما رزق الله العباد هو العقل الذي هو قوة لجميع الاشياء. فما يقدر أحد على إصلاح معيشته واجترار منفعة ولا دفع مضرة الا به. ومن لا عقل له لا دين له... ومن نصّب نفسه إماماً في الدين عليه ان يبدأ بتعليم نفسه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالتفضيل والإجلال من معلم الناس ومؤدبهم... أشد الفاقة عدم العقل، ولا مال أفضل من العقل". ويلخص الجاحظ تجاربه الشخصية في الحياة بقوله: "للأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقل، والعقل هو الحجة". ويرى أبو حيان التوحيدي في العقل: "ان المُلك المفزوع إليه، والحكم المرجوع الى ما لديه، في كل حال عارضة، وأمر واقع، عند حيرة الطالب". ورفع أبو العلاء المعري العقل الى المرتبة الاعلى بقوله: "ان الانسان اذا سمع ما يخالف الشرع دله العقل على الفضل فكأنه إمام له". وبالغ في مدح العقل: "اذا رجع العاقل الى عقله تهاون بالشرائع وازدراها"، وفضّل العقل على التدين العابر والشكلي الذي يضع الدين في موقع التعارض مع العقل. واعتبر ابن رشد فيلسوف العقلانية العربية. فهو، بين فلاسفة العرب، أول من أقدم على فحص الامور الدينية بالمقياس العقلي. ودافع السهروردي عن التهم الموجهة اليه بالكفر والزندقة: "إن فقهي هو فقه الانوار". ونبّه ابن خلدون الى ان التاريخ "فن في ظاهره خبر وتحقيق وفي باطنه نظر وتدقيق... فلا يقاس شيء من أحوال العمران على آخر، فكما اشتبها في أمر واحد، فلعلهما اختلفا في أمور... الحضارة هي غاية العمران". وميّز رفاعة الطهطاوي بين العلماء ورجال الدين بقوله "لا تتوهّم ان علماء الفرنسيس هم علماء دين، لان القسوس إنما هم علماء الدين فقط، وأما من يطلق عليه أسماء العلماء فهو من له معرفة في العلوم العقلية... العلوم الشرعية بمعنى القانونية، والاحكام القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية إنما مأخوذة من قوانين أخرى، أغلبها سياسي... الحرية هي الوسيلة العظمى لاسعاد أهالي الممالك، فإذا كانت الحرية مبنية على قوانين حسنة عدلية، كانت واسطة عظمى في راحة الاهالي واسعادهم في بلادهم، وكانت سبباً في حبهم لأوطانهم". اخيراً، رأى عبدالرحمن الكواكبي ان "الاستبداد مفسد للدين في أهم قسميه: الاخلاق. وان بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني مقارنة لا تنفك، ومتى وجد أحدهما في أمة جرّ الآخر اليه، واذا صلح أحدهما صلح الآخر... اذا ألزمت أمة بالحرية دون وعي تشقى". وينتهي الكتاب بخطاب موجه من الكواكبي الى بني قومه من العرب: "يا قوم، قاتل الله الغباوة، أليست هي التي جعلتكم تخافون من ظلكم وترهبون من قوتكم، وتجيشون منكم عليكم جيوشاً ليقتل بعضكم بعضاً؟ فيا قوم، وأريد شباب اليوم، ورجال الغد، شباب الفكر ورجال الجد، أعيذكم من الخزي والخذلان... وقد علمتم يا نجباء، من طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد جملاً كافية للتدبر فاعتبروا بها". ملاحظات ختامية جاءت خاتمة الكتاب معبّرة للغاية. فهي دعوة صريحة موجهة من الكواكبي الى شباب اليوم، رجال الغد، بالانصراف الى دراسة التراث العقلاني العربي لبناء نهضة عربية جديدة على اسس عقلانية لا تقيم التعارض بين العقل والدين، ولا تطمس التراث العقلاني العربي تحت كثافة الموروث الغيبي الذي يكاد يلغي التراث باسم الدين. لقد نجح عصام محفوظ في محاولاته المتكررة لتقريب التراث العقلاني العربي الى شبيبة اليوم، ومنهم نخب الثقافة العربية في المستقبل. واغتنت تجاربه باشكال متطورة من الحوار الشيق الذي يلم بالتفاصيل الاساسية لحياة الرواد الاوائل، والإحاطة بأفكارهم دون تحرير مشوه أو اجتزاء مخل. ولهذا الاسلوب فوائد جمة في مرحلة تبتعد فيها شبيبة اليوم أكثر فأكثر عن قراءة النص المكتوب على انواعه، وبشكل خاص عن قراءة الكتب التراثية التي تحتاج الى صبر وطول معاناة. يعتبر كثير من الباحثين ان الجانب الغيبي هو المكون الاساسي للتراث العربي، وفي ذلك ظلم لهذا التراث في مختلف حقبه. فجاء كتاب "حوار مع متمردي التراث" ليعيد التذكير بأن كوكبة كبيرة من المفكرين العرب كانوا على درجة عالية جداً من العقلانية، ولم تستطع آلة القمع السلطوية الحد من تأثيرهم في الفكر العربي في مختلف حقبه. يكفي التذكير بأن كلاً من هؤلاء المتمردين قد استند الى تراث المتمردين الذين سبقوه وتفاعل مع اعماله. فبات هؤلاء يشكلون تراثاً عربياً عقلانياً على درجة عالية من التكامل ولا يجوز وصفه بالتمرد على التراث السائد فحسب بل بالتراث الأكثر رسوخاً، والأكثر تأثيراً في الفكر العربي. أما عدم استفادة القوى السياسية من هذا التراث وتوظيفه لبناء دول عربية عصرية فمسألة اخرى تسأل عنها القوى الاستبدادية التسلطية في العالم العربي ولا يسأل عنها دعاة التراث العربي العقلاني. ولا تستقيم النظم السياسية في الدول العربية على قاعدة العدالة والحرية والمساواة الا اذا وضع التراث العقلاني العربي في موقعه الطبيعي الذي يستحق، أي بتحويله الى تراث حي، وقادر على تثقيف العرب، حكاماً وشعوباً، بثقافة عقلانية أصيلة هي من نتاج مفكريهم الكبار الذي اختزنوا في أعمالهم أفضل ما في التراث الانساني من مقولات عقلانية، تأثروا بها وطوروها. ختاماً، ليس من شك في ان كتاب "حوار مع متمردي التراث" يعد من الكتب الممتعة جداً والمفيدة جداً. فقد استند المؤلف الى كمّ كبير من الدراسات العلمية الموثقة أشار الى بعضها في نهاية فصول من الكتاب، وبشكل خاص عن ابن خلدون. وجذبته تلك المراجع أحياناً فاغرقت حواره بكثير من المعلومات التاريخية على حساب التوسع في شرح مقولات ابن خلدون المهمة حول العصبية، وأطوار الدولة، وطبائع علم العمران وغيرها. وقدم توضيحات مفيدة جداً حول محاكمة السهروردي الشهيرة، وفيها اعادة نظر بما لحق من تشويه بصورة صلاح الدين الأيوبي في هذه القضية. واللافت للنظر ان الباحث توقف في تقديم التراث العقلاني العربي عند الكواكبي في نهاية القرن التاسع عشر. علماً بأن القرن العشرين شهد أكثر معارك التراث الثقافي العربي العقلاني حدة، بدءاً بعلي عبدالرزاق، وطه حسين، و"أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ وصولاً الى الأب طانيوس منعم، والأب غريغوار حداد، وصادق جلال العظم، والصادق النيهوم، ونصر حامد أبو زيد، ومرسيل خليفة وكثير غيرهم. لذا لا بد من كتاب أو أكثر لاستكمال الحوار مع متمردي التراث العقلاني العربي في القرن العشرين. وهذه مسألة في غاية الاهمية حتى لا يبقى هذا الكتاب حلقة مقطوعة عن جذور هذا التراث في مرحلة ما قبل المقفع، ولم تستكمل حلقاته بعد الكواكبي طوال القرن العشرين الذي شهد اخفاقات لا حصر لها في مختلف المجالات، تحولت الى قمع منظم للثقافة العقلانية المناهضة للثقافة الغيبية السائدة، ولسنا بحاجة الى التوكيد على ان التنكر للتراث العربي العقلاني وعدم الاستفادة منه ومحاربته، تأتي في طليعة الاسباب التي أوصلت العرب الى الفشل المستمر طوال القرن العشرين.