في أول آذار مارس المقبل، تتسلم للمرة الأولى في تاريخ فنلندا سيدة هي تاريا هالونين 56 سنة التي عرفها العالم وزيرة للخارجية منذ 1995، رئاسة الجمهورية الوحيدة بين دول شمال أوروبا التي تتألف من ملكيات عريقة. وهي تتسلمها من الرئيس الحالي مارتي اهتيساري، وتصبح بذلك، الرئيس المنتخب الحادي عشر لفنلندا منذ استقلالها عن روسيا عام 1917، كما تصبح خامس امرأة ترأس دولة على مستوى العالم حالياً، بجانب رئيسات ايرلندا، لاتفيا، سيريلانكا، وبنما. فقد فازت هالونين مرشحة الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحاكم حالياً، في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية المباشرة، على منافسها المحافظ مرشح حزب الوسط، إسكو آهو الذي شغل منصب رئاسة الحكومة بين 1991 و1995. اذ حصلت على 6،51 في المئة بينما حصل هو على 48.4 في المئة من أصوات الناخبين الذين شاركوا بنسبة عالية في الاقتراع 80.2 في المئة، اي أعلى من أي انتخابات سابقة. وهذا انما يظهر حيوية الشعب والحياة السياسية والديموقراطية، على عكس ما هو شائع عن هذا البلد المرفّه الشهير بعزلته واستقراره، وهي الملاحظة التي تتأكد بوجود العدد الكبير من المرشحين الذين تنافسوا على منصب الرئاسة رغم انه ذو صلاحيات محدودة. فقد بلغوا في الدورة الأولى التي جرت يوم 16 كانون الثاني يناير سبعة مرشحين: أربع نساء وثلاثة رجال هم بالاضافة لهالونين وآهو: اليزابيث ريهن ممثلة حزب الأقلية السويدية، وريتا يووسكاني مرشحة حزب المحافظين التي كانت رئيسة البرلمان، وهيدي هاوتالا ممثلة حزب الخضر، وروستو كويسما مرشح حزب الإصلاح، وإيلكا هاكاليهتو مرشح حزب الاخلاص والاستقلال. وفي الصدد نفسه لا بد أن نلاحظ أيضاً أن الحملة الانتخابية لم تخل من عناوين وموضوعات مثيرة وحارة، كان في صدارتها مسألة الانضمام الى حلف الناتو بعد أن تم الانضمام للاتحاد الأوروبي، في مطلع الولاية الحالية للرئيس اهتيساري. لقد طرحت الدعوة لدخول الحلف العسكري الذي يحمي أوروبا، المرشحة اليزابيث ريهن وأيدها مرشح حزب الاصلاح ريستو كويسما، وسرعان ما احتل الموضوع حيزاً واسعاً من النقاش نظراً للحساسية الشديدة للمسألة الأمنية في بلد يجاور روسيا وقد خضع لاحتلالها طوال القرن التاسع عشر، ثم عاد وتعرض لهجمات ثانية منها خلال الحرب الكونية الثانية، ثم تعين عليه أن يصبح محايدا إبان الحرب الباردة. كما أن عدم الاستقرار الذي تشهده الأوضاع الروسية راهنا، يثير مخاوف أكثرية الفنلنديين وبقية الشماليين، ويحفز بعضهم على طلب الوقاية من حلف شمال الأطلسي كالجار النرويجي. ولم يضاه هذه المسألة السياسية على صعيد الحملة الانتخابية، غير انفجار الأزمة النمسوية في الأيام القليلة الماضية التي سبقت الدورة الثانية فتحولت موضوعاً للسجال السياسي الساخن بين هالونين التي اتخذت موقفاً مؤيداً لمواقف الدول الأوروبية المناهضة لمشاركة حزب الحرية بزعامة يورغ هايدر في الحكومة، وآهو الذي اتخذ موقفاً معارضاً للتدخل الأوروبي في الشؤون الداخلية للنمسا، عززه بهجوم شامل على سياسات الحكومة الاشتراكية الحالية برئاسة بافو ليبوتين تجاه الاتحاد الأوروبي، متعهداً الدفاع عن استقلالية بلاده إذا انتخبه الشعب رئيساً. بيد أن هذا الخط الذي انهزم في الانتخابات التشريعية عام 1995 وأدى الى خسارة آهو وحزبه رئاسة الحكومة، هو نفسه ما حمل الناخبين على عدم تمكينه من الفوز في الانتخابات الرئاسية، وجعلهم يؤيدون هالونين، تكريساً للتوجه الانفتاحي الايجابي الذي تنتهجه الحكومة الاشتراكية على غير صعيد، وكانت هي أحد أبرز رموزه كوزيرة للخارجية. ونتيجة لذلك يجمع المراقبون على أن فوز المرشحة اليسارية، سيعزز التجانس والانسجام السياسيين بين رئاسة الجمهورية التي تتمتع بصلاحيات مهمة في شؤون السياسة الخارجية تحديداً، والحكومة، لا لكون الطرفين من حزب واحد فقط، ولكن لأن الرئيسة الجديدة هي ذاتها وزيرة الخارجية السابقة وقد شاركت في رسمها، فضلاً عن أنها تعرف كل الوزراء فيها، وتربطها علاقات ممتازة برئيس الحكومة ليبونين، ما يؤهلهم للعمل كفريق متضامن. ويجدر بالذكر أن تسلم هالونين مهام منصبها في الشهر المقبل، سيتزامن مع بدء العمل بالدستور الجديد الذي أقره البرلمان الحالي عام 1995 بعد سنوات من النقاشات، ولا سيما حول المواد التي تحدد اختصاصات رئيس الجمهورية، وصلاحياته، حيث شاب الغموض النصوص الدستورية السابقة خلال عشرات السنين، وساد الاضطراب تنفيذها دائماً، وحدثت صراعات ومشاكل بسببها، ودخلتها التعديلات مرة بعد أخرى بلا جدوى. فقد فشلت البلاد عام 1988 في اختيار الرئيس عبر الاقتراع المباشر، لأن أياً من المرشحين لم يحصل على نسبة الخمسين في المئة من الأصوات كما يشترط الدستور فاضطرت للعودة الى الأسلوب القديم الذي كان يتم بموجبه انتخاب الرئيس عبر مجمع تمثيلي خاص من ثلاثمئة عضو منتخبين. وفي دورة 1994 انتخب الرئيس اهتيساري بالاقتراع المباشر، ولكنه لم يكن حزبياً، بينما يشترط الدستور أن يكون المرشح حزبيلا، فمنح الحزب الاشتراكي ثقته لاهتيساري تجنباً لأزمة مماثلة لأزمة 1988. على هذا تمتاز الانتخابات التي جرت الاسبوع الماضي بأنها الصورة المثلى الأولى للانتخابات الرئاسية المباشرة، كما سعى الفنلنديون اليها منذ سنين طويلة. وبقي أن تأتي مسيرة هالونين في سنوات ولايتها الست القادمة، صورة مثلى أخرى، لمضمون النص الدستوري الجديد، لأن جانباً مهماً من الاضطراب تركز سابقاً في عملية اقتسام السلطات من الناحية العملية، بين الرئيس والحكومة والبرلمان، بالنسبة الى السياسة الخارجية. أما الميزة الأخيرة لاختيار السيدة هالونين رئيسة لفنلندا فتتمثل في أنه يوطد المزايا التي لفنلندا في مضمار المساواة بين المرأة والرجل في الواقع الاقتصادي والمهني والسياسي، اذ معروف ان فنلندا تتنافس دائماً على المرتبة الأولى عالمياً على هذا الصعيد مع شقيقتها السويد، ولا تقل نسبة النساء في البرلمان عن الثلث بأي حال فيما تصل الى أربعين في المئة، أما في الحكومة فتحتل نصف مقاعدها تماماً ودائماً كما هو الحال عند الجارين السويدي والنرويجي. ويذكر أن الرئيسة تاريا مولودة في 24 كانون الأول ديسمبر 1943 في العاصمة هلسنكي. انخرطت في الحركة السياسية وهي طالبة في الجامعة وأصبحت رئيسة لاتحاد الطلبة عام 1969 - 1970. كذلك درست الحقوق، وتتقن السويدية والانكليزية والألمانية والفرنسية، اضافة الى الفنلندية. وقد دخلت البرلمان عام 1979، وكانت رئيسة للجنة الشؤون الاجتماعية في البرلمان، وتقلدت عدة حقائب وزارية، كالعدل والشؤون الاجتماعية والخارجية، وهي أم لطفلة أنّا من غير زواج.