معرض الكتاب الاسباني الذي يجري عقده سنوياً في شهر ايار مايو بحدائق الرتيرو بالعاصمة مدريد يعتبر حدثاً ثقافياً مهماً، ليس فقط من حيث عدد الكتب المعروضة او التي تباع خلاله، بل بسبب العدد الضخم من الزوار الذين يستغلون فرصة إقامته في الهواء الطلق للإطلاع على المطبوعات المتعددة. الكاتب انطونيو مونيوث مولينا اعتاد حضور المعرض للتوقيع على نسخ من كتبه المباعة لجمهور القراء. لكن خلال المعرض الأخير لم تكن كتبه من بين الكتب الأكثر مبيعاً، ومع ذلك حصل على جائزة مكتبة "كرسول" التي قامت بإجراء استفتاء بين جماهير القراء في برشلونة وفلانسيا ومدريد، وكانت النتيجة ان حصل الكاتب على جائزة افضل عمل خلال العام الماضي. انطونيو مونيوث مولينا المولود العام 1956 بقرية "أوبيدا" او "عبيدة" بمقاطعة خايين الأندلسية، يعتبر واحداً من أفضل الروائيين الاسبان في الوقت الحاضر. نشر روايته الأولى بعنوان ايلي الطوباوي العام 1986، وفي العام التالي خرجت روايته الثانية "شتاء في لشبونة" التي حصل بسببها على الجائزة الوطنية للأدب والنقد. ثم توالت بعد ذلك اعماله الأخرى ليحصل مجدداً على الجائزة الوطنية للأدب العام 1991 عن روايته "الفارس البولندي". وروايته الاخيرة "القمر المكتمل"، التي صدرت طبعتها الأولى العام 1997، صدرت قبل أيام طبعتها الثامنة. انه كاتب يهتم في اعماله بتناول موضوعات متعددة، ويبدأ عادة من خلال تجاربه الشخصية، اي انه يضع في المقام الأول الاحداث التي تمر بها اسبانيا المعاصرة منذ الستينات حتى الآن. رواية "القمر المكتمل" من اعماله الناضجة، وتدور احداثها في اسبانيا اليوم، وتعتبر نوعاً من إلقاء نظرة على الاحداث التي يعيشها مجتمعنا. تنقسم الرواية الى ثلاثة وثلاثين فصلاً مختلفة الطول، وتجري احداثها - كما تجري احداث الذاكرة الانسانية - بالحدث الحاضر والعودة الى الماضي. تحاول من ناحية ان تستعيد اجزاء من احداث وقعت في الماضي القريب تنتهي الى الضياع في ما وراء الذاكرة، ومن ناحية اخرى هناك الزمن والتجربة الحاضرة يتقدمان بإضافة معلومات جديدة الى الوقائع، تلك الوقائع التي تبدأ في الاتضاح او الغموض كاشفة عن موضوعية الواقع. الحوارات تتداخل دائماً في تعبيرات بطل الرواية، وهو رئيس مفتشي بوليس، لتضيف حيوية الى الأوصاف والوقائع. تقنية القص التي يستخدمها المؤلف، كما في الروايات السابقة، تقنية محكمة، وأيضاً اللغة التي يستخدمها هي لغة محددة ومتكاملة. يستخدم المؤلف راوياً مما يسمح له بالابتعاد عن العاطفية التي يمكن ان تصف الوقائع المؤلمة التي تضمها الرواية، وهي وقائع مطلوب وصفها بموضوعية شديدة. الراوي الذي يبدو متفقاً مع رؤية الكاتب نفسه، يعتبر صوتاً غير مكترث وغائباً يقود القارئ من خلال وصف خارجي وداخلي لكل شخصية من شخصيات الرواية. البطل الرئيسي للرواية، مفتش بوليس، ينتمي في الأصل الى مدينة اندلسية. يعود الى مدينته بعد ان مارس المهنة خلال خمسة عشر عاماً في بلاد الباسك، وبالتحديد في العاصمة الباسكية بلباو. بعودته الى مدينته يلتقي من جديد بأصوله الأولى ويحاول ان ينسى تلك السنوات من خلال عملية غسل دماغ نفسية. تفشل حياته العائلية، وتتعلق حياته المهنية بطرف خيط يحاول من خلاله البحث عن مخرج لإنقاذ حياته، اي الانتقال الى مدينة اخرى تنقذه من رعب مطاردة ارهابيي منظمة ايتا الانفصالية. بداية الرواية، في رأينا، تعتبر من اهم ما تمكن الكاتب من انجازه. منذ الصفحات الأولى يمكن تبين الضغوط الطويلة المكثفة التي تخضع لها شخصية البطل، ضغوط تستهلكه وتضعه في حالة قلق داخلي مرعبة. مع ذلك، فإن هذه الحالة ليست سوى احد المستويات التي يعتمد عليها واقع الرواية. منذ الصفحة الثانية عشرة يمكن تبين انه من خلال مكانه الجديد، يتحول مفتش البوليس الى مطارد لقاتل ومغتصب طفلة في الثالثة عشرة من عمرها. الخوف والرعب يسيطران على الشخصيات ويصنعان النص الروائي. والمشاهد التي تجري في الرواية كلها تقريباً تنقل هذه المشاعر بشكل محكم. تصف تدني الوضع المادي للمدينة، التي لا يذكر اسمها، لكن يمكن ان توحي الرواية بأنها مسقط رأس الكاتب، "عبيدة". الحدائق العامة مهملة، مليئة ببقايا السهرات التي تجري فيها عادة في عطلة نهاية الأسبوع: مهملات، وزجاجات فارغة، وقيء، الخ... أشياء معتادة في بعض مناطق المدن الاسبانية يمكن مشاهدتها بعد عطلة أية نهاية أسبوع. وأيضاً انعدام الأمن والأخطار التي تواجه المارة في الشوارع الجانبية المنعزلة. الرواية تعتمد أيضاً على أشياء وقعت في الماضي القريب، حيث تظهر شخصية هامشية على جانب كبير من الأهمية. شخصية راهب جيزويتي، الأب "أوردونيا"، معلم وأستاذ مفتش البوليس في سنوات حياته الأولى. ومن خلال مسيرة حياة هذا الراهب يتم اظهار مسيرة المجتمع الاسباني خلال العقود الأخيرة. يتوقف الكاتب امام بعض التفصيلات عن بعض المظاهر الخارجية لشخصياته، وفي حالة الأب اوردونيا يكون المظهر الخارجي هو يداه اللتان تجذبان انتباه المؤلف والقارئ. يدان تتحولان عبر فترات مختلفة: يدان ناعمتان لراهب محترم، ومخيفتان في زمن فرانكو، وبدا عامل بناء في سنوات الستينات والسبعينات عندما يعي الراهب ان العمل الاجتماعي يمكن ان يكون مجدياً، وأخيراً يدا راهب عجوز تحتفظان برائحة الفترة الأولى وخشونة الفترة الثانية. الموازنة النسوية المقابلة لشخصية مفتش البوليس تلعبها شخصية مهمة، معلمة الفتاة القتيلة. تلك المعلمة "سوسانا غريي"، شخصيتها مرسومة كإمرأة استقلالية ونشطة تواجه الحياة بشجاعة بعد زواج فاشل. العلاقة العاطفية في الرواية تربط بين المعلمة ومفتش البوليس، ويقصها الراوي بعاطفية مشبوبة ونعومة ظاهرة. مع ذلك، فإن الزمن الحاضر الذي تقدمه الرواية يبدو زمناً منتهياً، والشخصيات الرئيسية تبدو كما لو كانت بقايا كوارث عدة، بعضها وقع في حياة هذه الشخصيات الخاصة، وبعضها الآخر بعيد عن تلك الشخصيات. في خلفية تلك المشاهد تبدو اشياء متعلقة بالارهاب، واغتصاب وقتل الطفلة البريئة. انها احداث تذكر بأحداث اخرى مؤلمة بشكل حاد، وواقعية حدثت في المجتمع الاسباني خلال السنوات الأخيرة. يشعر القارئ بأنه معني بتلك الأحداث التي تعيشها الشخصية الرئيسية، مفتش البوليس. من خلال الرواية يمكن تبين ان اسبانيا تقف في منتصف الطريق بين ماض يفتقد العدالة ويعرف الظلم الاجتماعي والفقر والفوضى، وآخر حيث الثراء النسبي ليس كافياً للتغطية على البؤس الذي عاشته البلاد طوال اجيال عدة والذي تعي وجوده فجأة. لكن المثير للقلق والأكثر قيمة في كل هذا، من وجهة نظرنا، الرؤية التي يقدمها المؤلف عن الآخر، ذلك الآخر الحاضر دائماً من دون ان يذكره وإن كان واضحاً من خلال الاحداث. الآخر يمكن ان يكون مجرد ملمح، ولكنه مقتنع ولا يتردد لحظة في اطلاق النار على رأس رجل مجرد من السلاح. انه الارهابي الذي ينبع من ظل ضحيته عند أدنى اهمال في الاحتراس. الارهابي الذي يحصي خطوات الضحية وينتظر، وعندما تهمل الضحية احتراسها ينفذ الارهابي الطريقة الوحيدة التي يعرفها، القتل. الآخر يمكن ان يكون ايضاً تلك الشخصية التي لا اسم لها لكنها مرسومة بالتفصيل، وتصف الرواية كل ملامحها الجسدية المقززة، انها شخصية المغتصب. تمارس فعلها ايضاً كذئب بشري وتدمر بلا ادنى شفقة كل مقاومة للضحية. هذه الشخصية يصفها الكاتب ايضاً بشكل متقن، من خلال وصف ايدي ونظرات القاتل، انها شخصية "طبيعية". "طبيعيته" تسمح له بأن يمارس اجرامه في المجتمع ويعود الى مخدعه العائلي. حلّل انطونيو مونيوث مولينا هذه الشخصية من خلال تحديد المحيط العائلي حيث كان ميلاد وحياة القاتل. ان وصف الأشياء والإشارات التي تصدر عن الشخصيات وبعض عاداتها اليومية يبدو كاشفاً عن تحليل نفسي عميق. ولتقديم مثل هذا الوصف لا بد للكاتب ان يتمتع بقدرة فائقة على الملاحظة وتقييم الامكانات التعبيرية للأشياء العادية. مثلاً، يذكر عن ام القاتل انها استبدلت المسبحة بأداة التحكم عن بعد في جهاز التلفزيون، والذي تستخدمه بسرعة كبيرة من دون تمييز بين الاجزاء، فتحقق كوارث حقيقية في الصوت والصورة. اختار المؤلف عنواناً موحياً لروايته "القمر المكتمل"، وهذا يوحي للقارئ بالعديد من المشاهد المختلطة بين الوضوح والغموض المحددين، لأنه من الممكن ان تكون المشاهد متعلقة بوضوح كامل لكن ضوء القمر ليس كضوء الشمس. المشهد المضاء بضوء القمر المكتمل تكون جوانبه المظللة اكبر من المضيئة، كما في الرواية. وإيقاع القص في الجوانب المظلمة يسير بإيقاع متكرر رتيب ودائري كما لو كان يعكس التغيير في الدوائر القمرية، تلك التغييرات التي ارتبطت منذ القدم بأحداث تهرب من دائرة التفسير. * ميلاغروس نوين Milagros Nuin، ناقدة أدبية ومستعربة ترجمت الى الاسبانية روايات "عرس الزين" و"بندرشاه" للطيب صالح، و"الزيني بركات" لجمال الغيطاني، وتعمل حالياً استاذة بجامعة كومبلوتنسي بمدريد. ترجمة: طلعت شاهين