} أبرز ما في قصص غريس بيلي شاعريتها الرقيقة. تنظر إلى آلام الرجل والمرأة بحنان، على رغم أنها نشطت في موجة الحركة النسوية لدى ظهورها في أميركا في الخمسينات، ومعظم قصصها استعادة لحدث معين، غيّر وجهة حياة شخوصها مرة واحدة وإلى الأبد، لغتها مركزة، شفافة، ذات وقع شعري واضح، تُكثر من استعمال الحوارات، جزء بسيط من كلام الشخوص يكشف أسرار الموضوع الرئيسي للقصة. عناوين قصصها، على رغم طابعها الكلاسيكي، تشكل عنصراً توضيحياً مهماً من عناصر القصة ذاتها. في كتاباتها تبدو غريس بيلي مثل تشيخوف، عذاب نسائها عميق، لكن صراخهن قليل، أعمالها الأولى كلاسيكية طويلة، لكن بدءاً من مجموعتها الثالثة تجرّب اللغة المكثفة في السرد، فلا يتجاوز بعض قصصها ال350 كلمة، بصمات حياتها الخاصة تظهر على جميع مواضيعها، وهي تعتمد أحداثاً بسيطة من الحياة اليومية. ولدت غريس بيلي في نيويورك عام 1922 في حي مانهاتن الفقير، لعائلة مهاجرة من أصل روسي، تلقت تعليماً بسيطاً، ثم انهمكت في قراءة الأدب، وشاركت في الحركات السياسة المناهضة للحروب، خصوصاً حرب فيتنام. تقول في مقدمة المجموعة الكاملة لأعمالها القصصية دار فيراكو البريطانية التي اخترنا منها ثلاث قصص، إنها بدأت حياتها سيدة عادية، زوجة وأم وربة بيت، لكنها منذ الطفولة تملك حساً أدبياً كان واقعاً تحت سطوة لغتين، لغة البيت الروسية ولغة الشارع الانكليزية. وجربت كتابة الشعر في صباها، وفي 1954 قررت الخوض في تجربة القصة القصيرة، لأن شيئاً ما، مثل المرض، كما تصفه، كان يلح عليها لكتابة القصة عن الرجل والمرأة في الخمسينات. أمّ في أحد الأيام كنت استمع إلى اذاعة "اي. ام" سمعت أغنية "اوه، مشتاقة لرؤية أمي على عتبة الباب". بالله! قلت، أنا أفهم حقاً هذه الأغنية. لطالما اشتقت لرؤية أمي عند عتبة الباب. في الواقع كثيراً ما وقفت هناك بانتظاري. كانت باستمرار تقف عند مختلف العتبات تنظر إليّ. يوماً ما وقفت، هكذا، أمام الباب، خلفها ظلام المدخل. كان يوم عيد رأس السنة. قالت بحزن: إذا كنت ترجعين إلى البيت في الرابعة صباحاً وأنت في السابعة عشرة، فمتى سترجعين عندما تصبحين في العشرين؟ بدأت تطرح هذا السؤال من دون مزاح ولا خشونة. بدأ قلقها استعداداً للموت. ظنت أنها لن تكون حيّة عندما أكون في العشرين. لذلك تساءلت. في وقت آخر وقفت عند باب غرفتي، كنت للتو انتهي من تحرير بيان سياسي أهاجم فيه الوضع العائلي في الاتحاد السوفياتي. قالت: نامي بالله عليك، أيتها الحمقاء، أنتِ وأفكارك الشيوعية. لقد رأيناهم منذ البداية، والدك وأنا، عام 1905، توقعنا كل هذا. عند باب المطبخ قالت: لم تنهي غداءك، تركضين هنا وهناك بلا وعي. ما الذي ستجنينه؟ ثم ماتت. من الطبيعي أن اشتاق إلى رؤيتها بقية عمري، ليس فقط واقفة عند عتبة الباب، بل في عدد كبير من الأماكن - في غرفة الطعام، مع عماتي، عند النافذة تنظر في كل الاتجاهات خارج البناية. في الحديقة العامة بين أزهار الزينة والقطيفة، في غرفة الجلوس مع والدي، جالسين على كراسي الجلد المريحة، يستمعان إلى موتسارت. ينظران إلى بعضهما بدهشة، يبدو لهما كما لو أصبحا فوق ظهر القارب. كما لو أنهما تعلما للتو أول مفردات الانكليزية، كما لو أنه للتو وبفخر أنهى اختبار استاذية علم الترشيح وكما لو أنها انتهت للتو من تسوق حاجيات المطبخ. أتمنى رؤيتها واقفة عند باب غرفة الجلوس. وقفت هناك لدقيقة. ثم جلست بجانبه. كان لديهما جهاز تسجيل ثمين. كانا يستمعان إلى باخ. قالت له: تحدث معي قليلاً. لم نعد نتحدث كثيراً هذه الأيام. أنا متعب، قال. ألا ترين؟ اليوم رأيت حوالي ثلاثين شخصاً. كلهم مرضى، كلهم يتكلمون، يتكلمون، يتكلمون. استمعي إلى الموسيقى، قال. اعتقد كان لكِ صوت جميل ذات يوم. أنا متعب، قال. ثم ماتت. الرجل الذي أخبرني قصة حياته قال فنسنت: أردت أن أكون طبيباً، أردت أن أكون طبيباً من كل قلبي. درست كل عظمة، كل عضو في الجسم، ما وظيفته، وكيف يعمل. في المدرسة قالوا لي: فنسنت، كن مهندساً. أنت تفهم الرياضيات. قلت: أريد أن أكون طبيباً. أنا أعرف كيف تتصل أعضاء الجسم. عندما يحدث خلل ما، سأعرف كيف أصلحه. قالوا في المدرسة: فنسنت، ستكون حقاً مهندساً ممتازاً. أظهرت في كل الامتحانات أي مهندس جيد ستكونه. لم تظهر الامتحانات. انك ستكون طبيباً جيداً؟ قلت: اووه... أنا متلهف لأن أكون طبيباً. كدت أبكي. كنت في السابعة عشرة. قلت: ربما أنتم على حق . فأنت المدرس، وأنت المسؤول. وأعرف انني صغير. قالوا: بالإضافة إلى ذلك، انت ذاهب إلى الجيش. وبعد ذلك.. صرت أطهو الطعام. أجهز الأكل لألفي رجل. الآن انتِ ترين. لديّ وظيفة جيدة. وثلاثة أطفال. هذه زوجتي، كونسيولا. تعرفين أني انقذت حياتها؟... عانت آلاماً. قال الطبيب: ما هذا؟ هل أنتِ متعبة. هل كنتِ بصحبة عدد من الناس أكثر من اللازم؟ كم طفلاً لديك؟ ارتاحي الليلة، وغداً سنجري الفحوص. في الصباح التالي اتصلت بالطبيب. قلتُ: يجب أن تجري لها جراحة على الفور. القيت نظرة على الكتاب. أعرف أين مكان الألم. أنا أفهم ما هو الضغط، من أين يأتي. أرى بوضوح العضو الذي يسبب المتاعب. أجرى الطبيب فحصاً، قال: يجب أن تُجرى لها الجراحة حالاً. قال لي: فنسنت، كيف عرفت؟ * * * عمتي ترفض الزواج... جدتي جالسة في مقعدها. قالت: عندما استلقي في المساء لا يمكنني الارتياح، عظامي تدفع بعضها، عندما استيقطتُ هذا الصباح تساءلت: ماذا؟ هل نمتُ؟ يا إلهي، لا أزال موجودة هنا. سأبقى في هذا العالم إلى الأبد. كانت عمتي تسوي الفرش. انظري، جدتك، لا تعرق. لا شيء من ثيابها يحتاج إلى غسيل، جواربها، سراويلها، الأغطية. لذا لا يمكن ان تصدقي أية حياة عاشت. لم تكن حياة. كانت عذاباً. ألا تحبنا؟ سألتُ. تحبكم؟ قالت عمتي. أي شيء يستحق هذا؟ أنتم الأطفال. أبن عمك في مدينة كونيكتيكت؟ إذن، ألا يجعلها هذا سعيدة؟ قالت عمتي، آه، ماذا رأت! ماذا؟ سألتُ. ماذا رأت؟ في يوم ما سأخبرك، شيئاً واحداً أقوله لك الآن. لا تحملي الراية الكبرى. عندما تكبرين، وتكونين في مسيرة أو اضراب أو ما شابه. يجب أن لا تكوني من يحمل الراية، ليكن أي شخص آخر. هل كان السبب لأن رسيّا حمل الراية؟ لأنه كان ولداً رائعاً، في السابعة عشرة فقط. جدتكِ بنفسها حملته من الشارع، كان ميتاً. أخذته في العربة إلى بيته. وماذا بعد؟ سألتُ. دخل أبي ومشى باتجاه الغرفة. قال: على الأقل هي عاشت. ألم تعيشي أنتِ أيضاً؟ سألت عمتي. بعد ذلك أخذت جدتي يدها: سونيا لسبب واحد لا اغمض عيني في الليل. افكر بكِ... ليست لك حياة حقيقية. جدتي! سألتُ. وماذا عنا نحن؟ تنهدت عمتي: صغيرتي. عزيزتي تعالي نتمشى قليلاً. عند العشاء، لم يتكلم أحد. لذا، سألتها مرة أخرى. سونيا، قولي لي نعم أو لا: هل لكِ حياة؟ هّا! قالتْ. إذا اردتِ ان تعرفي، اقرأي دستوفيسكي. فضحك الجميع وظلوا يضحكون. أحضرت أمي الشاي والحلوى. قالت جدتي: لماذا تضحكون؟ أما عمتي فقالت: اضحكوا.