خلال شهر تشرين الثاني نوفمبر من عام 1999 صدرت عن دار "الطريق الجديد" في دمشق ترجمة موفق مشنوق لرواية غونتر غراس "طبل الصفيح"، وعن سلسلة "روايات الهلال" في القاهرة ترجمة أحمد عمر شاهين لرواية "قط وفأر". وتشاء المصادفات العجيبة أن تشكل الترجمتان، من دون اتفاق أو تنسيق بين المترجمين، الجزء الأول والثاني من "ثلاثية دانتسيغ"، علماً أن الترجمة الأولى تمت عن الفرنسية والثانية عن الإنكليزية. فهل سنرى الجزء الثالث "سنوات الكلاب أو سنوات البؤس" قريباً، وعن الألمانية يا ترى، أم ستخمد "فورة" غراس كما غيرها سابقاً؟ في أواخر أيلول سبتمبر عندما أعلنت أكاديمية نوبل السويدية عن منحها جائزة الأدب لعام 1999 للكاتب الألماني غونتر غراس كنت في زيارة لألمانيا، وسنحت لي الفرصة لمتابعة ردود الفعل الألمانية على هذا الحدث المهم في الصحافة والإذاعة والتلفزيون، فالكاتب غراس هو سادس أديب ألماني يتوج بهذه الجائزة بعد باول هايزِه 1910 وغيرهاردت هاوبتمان 1912 وتوماس مان 1929 ونيلي ساكْس 1966 وهاينريش بُلْ 1972. تواترت ردود الفعل بين البهجة العارمة بهذا المكسب العالمي لمصلحة المانيا، وبين القبول الفاتر في أوساط اليمين السياسي الرافض تحليلات غراس لبعض تطورات السياسة الألمانية، وكذلك لدى كثير من المثقفين اليساريين المتسائلين عن الأسباب الكامنة وراء اختيار غراس تحديداً قبل احتفال المانيا بمرور عشر سنوات على اعادة توحيدها، وبين التشكيك بالقيمة الأدبية الحقيقية لهذه الجائزة في حال غراس، كما فعل الناقد الشهير مارسيل رانيتسكي في مقابلة تلفزيونية عقب الإعلان عن الجائزة بأيام قليلة، وهو الذي سبق أن هاجم رواية غراس "حقل واسع" من ناحية بنيتها الفنية المفككة ومن حيث الموقف الإيديولوجي لمؤلفها تجاه تعامل المانيا الغربية مع تركة المانياالشرقية في مسيرة عملية التوحيد. وقد اعترف غراس بصحة وجهة رانيتسكي الفنية فقط. أما الجانب الإيديولوجي الذي يشارك المؤلف فيه عدد هائل من المانيا، فما زال الجدل قائماً حوله، بل زاد عمقاً بمناسبة الاحتفال بسقوط جدار برلين وبذكرى الوحدة. وفي أحد البرامج التلفزيونية المعدة لهذه المناسبة الأدبية جالت الكاميرا في الشوارع لتسأل المارة عن معرفتهم بشخص غراس. وكانت النتيجة المفاجئة أن 30 في المئة من عامة الناس لا تعرف من هو صاحب هذا الإسم وماذا يعمل. وعندما ووجه المؤلف بهذه النتيجة، ابتسم وأجاب "إذا كنت معروفاً كأديب من قبل 70 في المئة من الناس، فهذا مدعاة للتفاؤل بمدى انتشار او تأثير الأدب". وقبل قراءة غراس لا بد من القاء ضوء على سيرته. فهو ولد في 16/10/1927 في مدينة دانتسيغ الواقعة في بحر الشمال، وقد كانت آنذاك مدينة حرة تحت اشراف عصبة الأمم، ومعظم سكانها من أصول المانية. وأصبحت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تابعة لبولونيا تحت الإسم البولوني كْدانْسْك. كان والده بقالاً المانياً، أما أمه فمن الأقلية السلافية البولونية التي تقطن المدينة. وستلعب هذه المدينة دوراً مميزاً في أعمال غراس الروائية، وخصوصاً في ثلاثيته الآنفة الذكر. خلال سنوات الحرب العالمية الثانية كان غراس كبقية زملائه عضواً في منظمة الشبيبة الهتلرية، ثم سيق الى الجيش ووقع في الأسر لدى القوات الأميركية حتى عام 1946، ثم عمل مزارعاً، ثم في منجم لاستخراج البوتاسيوم، ثم نقّاشاً على الحجر في مدينة دوسلدورف حيث درس بين 1949 - 1952 في أكاديمية الفنون الجميلة، وتابع دراسته في المعهد العالي للفنون الجميلة في برلين حيث تخصص في النحت. بعد تخرجه قضى غراس سنوات بين فرنسا وايطاليا الى أن استقر في برلين الغربية منذ 1960 علاوة على اقتنائه بيتاً ريفياً في شليزيا بالقرب من مدينة كيل. بدأ غراس حياته الفنية العملية كنحات وحفار وشاعر ومسرحي" ومن دون أن يتخلى عن أي من هذه النشاطات الفنية ركز جهوده منذ عام 1958 على الكتابة الروائية، والتزم منذ مطلع الستينات سياسة حزب الاشتراكيين الديموقراطيين برئاسة فيلي براندت وانخرط في حملاته الانتخابية داعياً الى ضرورة انغماس الأديب في حياة مجتمعه السياسية. وقد حصل غراس على الكثير من الجوائز الأدبية، أهمها جائزة غيورغ بوشْنَر 1965 وجائزة تيودور فونتانِه 1968. وشغل منصب رئيس أكاديمية الفنون البرلينية بين 1983 و1986. في ديوانيه المبكرين الصادرين 1956 و1960 تتجلى تأثيرات الشاعر التعبيري غوتفريد بِن والسوريالي هانس آرب في لغة ايقاعية ذات حساسية مرهفة. ومعظم قصائده التي تجنح نحو التصعيد الخيالي تحمل طابعاً حكائياً واضحاً يعبر عن سخطه تجاه الواقع القائم، وعن نفوره من المجتمع البورجوازي المهيمن. وكثير من أبيات قصائده تبدو وكأنها تداعيات خاطفة عن أحداث متفرقة متباعدة لا يربط بينها رابط، لكنها في حقيقة الأمر تنويعات عن موضوعات سنتعرف عليها في روايته "طبل الصفيح" الصادرة في 1959 وقد أوصلته الى مصاف الشهرة العالمية عبر ترجماتها المتتالية والدراسات التي كتبت حولها بالألمانية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ثم عبر اقتباسها سينمائياً بإخراج فولكر شلونْدورف. وهذه الرواية هي متابعة معاصرة ذكية لتقاليد روايات الشطّار والعيّارين التي تعود الى عصر النهضة الأوروبي، كما لدى ثربانتس ورابليه وفيشارت وغريملز هاوزن، مع توليف ناجح لتقنيات السرد المعاصرة في غنى وتجديد لغوي مبتكر لافت للنظر. وهي تتألف من عدد لا يحصى من الحكايات المتواشجة المتولدة من حياة البطل أوسكار ماتسارِت ومن يحيط به، وتزخر بإلماعات فانتازية تهكمية ساخرة، وهي تستعرض وتحلل ثلاثين عاماً من التاريخ الألماني ممتدة بين 1924 و1954 من زاوية نظر كائن قزم فيزيائياً، بإرادته، احتجاجاً على العالم الذي جاء اليه دون إرادته، وهي أشبه باعتراف ذاتي، يبغي استفزاز الشر، كي يجعل الأوضاع الفاسدة واضحة ومدركة. وفي عام 1961 نشر غراس "قط وفأر"، وهي ليست رواية، وإنما قصة طويلة في بنيتها الفنية وموضوعها، وتنقسم الى ثلاثة عشر مقطعاً - وليس فصلاً كما ورد في الترجمة - غير متتابعة زمنياً وفق أسلوب السرد التقليدي، بل متناوبة بين الحاضر والمستقبل والماضي بحسب الأحداث التي يسوقها الراوي ييلينتْس عن حياة ضحيته مالْكِه خلال العهد النازي في دانتسيغ. ولعبة القط والفأر في القصة هي كناية عن علاقة القط بالفأر أو السلطة بالفرد في النظام الشمولي. واللقطة القصصية التي تبدأ بها الأحداث هي اكتشاف ييلينتس أن التفاحة عند مالِكِه تشبه الفأر، فيمسك بقطة كانت تتجول في الملعب ويجعلها تهاجم الفأر المزعوم. وكل ما يتلو ذلك من أحداث في حياة مالكه هي محاولاته الدائبة لستر التشوه الخلقي في عنقه أي التفاحة الكبيرة، بدءاً بمفك براغٍ وانتهاء بوسام الصليب الحديدي كبطل حرب. وما يدفع ييلينتس لسرد الحكاية هو شعوره بالذنب تجاه حادثة بدت كمزحة سمجة، لكنها انتهت بانتحار مالكه الذي فشل في التأقلم أو الانسجام نفسياً مع لعبة القط والفأر التي حكمت علاقته بمحيطه، حتى أن العذراء مريم لم تسعفه بالخلاص. وتمتاز لغة هذه القصة بتواشج مذهل مع بنيتها المعمارية وبمنح تفاصيل الأحداث على بساطتها أبعاداً اجتماعية وسياسية تعري علاقات الواقع وتكشف آلية عملها الإيديولوجية. وقد اعتبر النقاد الألمان هذا العمل تحفة أدبية تمثل تطور القصة الطويلة في مرحلة ما بعد الحرب. لقد أنجبت الحضارة الألمانية على امتداد مراحل نهوضها وازدهارها عدداً كبيراً من أهم أعلام الفكر والفن والعلم، ممن ساهموا في تطوير الحضارة العالمية المعاصرة. وتعرُفنا نحن العرب على عوالم الحضارة الألمانية جرى عبر طريقين اثنين، وخصوصاً على صعيد الفكر والأدب. أولهما عبر اللغتين الوسيطتين الإنكليزية والفرنسية، وثانيهما عن طريق اللغة الألمانية نفسها، لكن بصورة أضيق بما لا يقاس، مقارنة بالطريق الأول. ولا يخفى ما في الترجمة عن لغة وسيطة من آثار سلبية تَلحق بالأصل المترجَم في جوانبه الأسلوبية والمضمونية، على رغم وجود بعض الاستثناءات النادرة. وعملياً لم يكن أمامنا من سبيل آخر، إذ كان لا بد لنا من التعرف على أعمال هؤلاء المفكرين والأدباء والفنانين. لكن العارفين باللغة الألمانية، والقادرين على الترجمة عنها، كانوا قلة نادرة، وما زالوا، ناهيك عن مسألة الاهتمام بالموضوع وتوفر الاستعداد المعنوي والمادي للإقدام على ترجمته. ومن هنا ليس غريباً أن تلقى الأعمال الألمانية المترجمة عن الفرنسية والإنكليزية ترحيباً كبيراً في الأوساط الثقافية العربية، علماً بأن قراءها غير قادرين على التحقق من مدى دقتها وأمانتها. وما يسمى بالترجمات التجارية التي تسلق سلقاً، وتحذف من الأصل ما تشاء من دون أي رادع، كي تلبي متطلبات السوق بالسرعة المطلوبة ظاهرةٌ منتشرة بكثرة للأسف في أوساطنا، ناهيك أحياناً عن التشويه المتعمد للنص نتيجة موقف ايديولوجي معارض أو بهدف عدم خدش حياء القارىء أو إحساسه الديني. ومع ذلك فقد ظهر نسبياً عدد لا بأس به من الترجمات عن الألمانية مباشرة، وخصوصاً في مصر منذ مطلع القرن العشرين تقريباً. إلا أن معظمها للأسف الشديد لا يحقق الهدف المنشود من عملية الترجمة، إما لضعف المترجم في اللغة الألمانية أو في اللغة العربية، أو في كلتيهما معاً، أو لانتهاجه أسلوبَ ترجمةٍ يتنافى مع بنية العمل الأصلي. ان لترجمة موفق مشنوق رواية "طبل الصفيح" عن الفرنسية قصة طريفة، فقد تمت هذه الترجمة قبل ثلاث عشرة سنة وبدافع ذاتي محض، ومن دون اتفاق مع أي ناشر، ثم طلب مني أن أراجع معه بعض المقاطع على النص الألماني الأصلي، فوجدت ترجمته دقيقة من حيث المضمون والأسلوب. ثم هجع المخطوط في أدراج دور نشر سورية خاصة ورسمية الى أن رأى النور أخيراً بعد حصول المؤلف على جائزة نوبل، وفي طبعة أنيقة بلغت 584 صفحة من الحجم الكبير. لقد تمكن مشنوق الى حد كبير من مقاربة أسلوب غراس على رغم اللغة الوسيطة، وهذا يرجع لدقة او رشاقة الترجمة الفرنسية وللجهد الكبير الذي بذله مشنوق خلال سنة من العمل الدؤوب والمراجعة حتى الهوس الجميل. وعلى العكس من ذلك كان الأمر بالنسبة لترجمة أحمد عمر شاهين ل"قط وفأر" عن الإنكليزية. والأخطاء تبدأ منذ الصفحة الرابعة التي ترد فيها عبارة "هذه ترجمة كاملة لرواية" ثم في الصفحتين 139 و142 يكرر المترجم استخدام مصطلح "رواية"، في حين أن العمل هو "قصة طويلة" والفارق من حيث الجنس الأدبي وبنيته كبير بين الرواية والقصة الطويلة. أما في متن النص فهناك أخطاء ترتبط بلفظ أسماء العلم والأمكنة، كان يمكن تلافيها بسؤال من يعرف الألمانية. وهناك أخطاء أخرى ناتجة عن سوء الفهم أو عن عدم التدقيق والتسرع، قد يكون مردها الى أخطاء في الترجمة الإنكليزية، وهو أمر ليس غريباً، لكنه مستهجن. ولنأخذ بعض الأمثلة من الصفحة الأولى. يقول المترجم: "كنا نستلقي على العشب في ملعب الشلاجبول "والصحيح هو كنا نستلقي على العشب في ملعب كرة المضرب الجلدية. ثم يقول: "قط يعبر الملعب ببطء بشكل متعرج... القط أسود، يملكه فراش المدرسة". والصحيح: قطة تعبر الملعب طولانياً... القطة سوداء يملكها المشرف على الملعب. ويقول كذلك "وفي الطريق الممهد للسباق، كان المتسابقون يتدربون ويمارسون تمارين الرشاقة". والصحيح في مضمار السباق كان متسابقو المئة متر يتمرنون على حركة الانطلاق، وكانوا مضطربين. ثم يقول بسوء فهم غريب "وبدا القط خلال أوراق العشب في أحسن حال". والصحيح "قطة مشرف الملعب السوداء سحبت من وراء الأعشاب مريول طفل أبيض اللون. وبعد أسطر قليلة يتابع "زحفت عبر السماء طائرة بمحركات ثلاثة، ببطء وصوت عال، لكنها لم تستطع أن تقلع سنتي". والصحيح هو: عبرت السماء طائرة بمحركات ثلاثة ببطء وصوت عال لم يطغَ على صوت انذار سني. ثم يقول: "ونفخ السيد براندت مدرس الألعاب في صفارته لتغيير الأماكن". والصحيح: صفر الحكم مالنبراندت، خطأ، بدلوا الإرسال!. هذه عينات من أخطاء الصفحة الأولى فقط، فكيف سيبدو الأمر ان تابعنا؟ هل هذه قصة غراس الطويلة أم عمل آخر يشبهه؟ أليس في هذا ما يغني عن مزيد من الشرح؟ يكفي أن نضيف أن أسلوب غراس خاص ورشيق وجميل. لقد تطورت عملية الترجمة خلال عصرنا هذا لتصبح علماً وفناً في الوقت نفسه، له دراساته ونظرياته ومعاهده المتوسطة والعليا التي تؤهل كوادرها وفق أحدث المناهج اللغوية المقارنة. وعلى المترجم الذي يحترم عمله وقارئه أن يطلع على منجزات هذا العلم، كي يستكمل ويطور أدواته لتكون مساهماته الترجمية فعالة في بناء ثقافة وطنه. أما الترجمات العجولة والمفبركة لضرورات سوق النشر فإنها تسيء الى الحركة الثقافية بتشويهها صورة الأصل.