كان للتفجيرات الذرية وما تبعها من رعب نووي وحرب باردة ان جعلت بعض العلماء، والفيزيائيين منهم خصوصاً، عرضة لاسئلة اخلاقية لم تواجههم من قبل. وكلمة الأخلاقية التي أشير اليها هنا هي اقرب مرادف بالعربية للكلمة الانكليزية Ethics التي تعني آداب مهنة عبر معايير محددة ومقبولة تمنع سوء التصرف. فعلاقة الاجتماع بالعلم وأهمية احداث المزيد من التقارب بين العلماء والشؤون العامة، تتطلب من العلماء والتكنولوجيين عموماً، ومن الجمعيات العلمية او المؤسسات الاكاديمية خصوصاً، مسؤولية تحمل تبعات اعمالهم واكتشافاتهم، وربما الأهم: اتخاذ مواقف اخلاقية من المستجدات العلمية والاجتماعية. وهذا، مثلاً لا حصراً، ما حمل الحكومة الأميركية على الشروع في منتصف تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بتخصيص فترة استشارية لمدة 60 يوماً للاتفاق على تعريف ما أخذ يُسمى ب"سوء التصرف العلمي". كما اعلن، كمثال ساطع آخر، 32 من العلماء الفيزيائيين البارزين في الولاياتالمتحدة والحائزين على جوائز نوبل في الخريف الماضي عن معارضتهم الشديدة للأسلحة النووية ومساندتهم للمعاهدة العالمية في الحظر الشامل للاختبارات النووية. وأطرح مثالين عمليين لادراك اهمية المؤسسات العلمية عند السياسيين وصياغتها، سلباً او ايجاباً، لمسيرة المجتمع. الأول: ادى انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة الى انهيار العلم والتكنولوجيا في أوروبا الشرقية. وكان هذا بسبب تداخل الجمعيات العلمية والمؤسسات الاكاديمية مع مركز القرار السوفياتي، واعتمادها على العلماء الاعضاء في الحزب الحاكم في بعد كلي عن عموم الناس، بدل قيام اتلك لمؤسسات على الافراد. الثاني: الذي لا يقل أهمية، هو التأثير الايجابي في المجال العلمي لأكاديمية العلوم للعالم الثالث على عالمها هذا، هي التي تأسست عام 1983 في مدينة تريسيت الايطالية. لكن بالرغم من التأثير الفاعل والمهم الذي تستطيع الجمعيات الاكاديمية والعلمية احداثه في بلورة مواقف اخلاقية عبر نقاشات ساخنة في المجتمع، كالموقف من الاستنساخ مثلاً لا حصراً، فانها لم تقم بهذه المهمة. لكن ماذا نجد حين نراجع تجارب علماء كبار آخرين؟ فاندريه زخاروف الروسي الحائز على جائزة نوبل والمتوفى عام 1989، اعطى مثالاً رائعاً على تداخل او تفاعل الاخلاق مع العلم. لقد نُفي هذا العالم لسبع سنوات وعاش تحت اقامة جبرية لا لشيء سوى تحدثه علناً عن مواضيع حقوق الانسان والبيئة والديموقراطية. وكان دويّ هذا العالم موضع تجاهل كامل من قبل المعسكر الشرقي السابق، في خضم الحرب الباردة. وفشلت المؤسسات الاكاديمية والعلمية الكبيرة في الاتحاد السوفياتي السابق في حمايته لأنها، كما ذكرنا، كانت قريبة من دائرة القرار السياسي. اما عبدالسلام، الباكستاني الحائز على جائزة نوبل والمتوفى عام 1998 لمبادرته وتأسيسه اكاديمية علمية تفي بحاجات وظروف العلم في بلدان العالم الثالث، فكان اهتمامه الجدي بهذا الموضوع، في خضم تطورات علاقة الشمال - الجنوب، ما ساهم في تأسيس المركز العالمي للفيزياء النظرية عام 1960. وقد تبع هذا التطور نشوء اكاديمية العالم الثالث للعلوم وغيرها من المؤسسات العلمية المرموقة الأخرى التي أتت بالنفع الكبير على بلدان كالهند والصين أثناء مراحل تطورها الحرجة. اما العالم اللبناني الراحل رمال رمال الذي توفي في وقت مبكر من حياته عام 1991 ولد في بيروت عام 1951 وتخصص في فيزياء المادة المكثفة Condensed Matter وقضى معظم حياته العلمية في فرنسا، فكتب لأحد زملائه من العلماء الفرنسيين البارزين يشكو معاناته جراء مضي سنين عدة على الحرب الأهلية المدمرة في لبنان. لقد قال: "عندي أمل واحد فقط، وهو انتصار الذكاء والمنطق عند الانسان". لقد اصبح امل هذا العالم، الذي كان جليلاً وكبيراً، أملاً اوروبياً اذ وضع اسمه تخليداً على ميدالية لأكاديمية العلوم الأوروبية كي تصبح وسام شرف لتكريم العلماء المتفوقين. ان المسؤولية الأخلاقية تحتم على المؤسسات والجمعيات العلمية ان توفر الحماية لأولئك العلماء الذين يخاطرون بحياتهم ومواقفهم عند تقديمهم الحقائق المرة للعامة. ورغم التجارب هذه، وغيرها، لا يزال وضع المؤسسات العلمية او الاكاديمية دون المستوى المطلوب لترويج النقاشات الاخلاقية واتخاذ المواقف المسؤولة. ف"اطلاق صفارة الانذار يجب ان يصبح جزءاً من نظام العلم" كما رأى العالم الفيزيائي جوزيف روت بالت في كلمة القاها عند قبوله جائزة نوبل عام 1995، وهو مُحق في ما رأى.