من قال إن الجيش الروسي يخوض حرباً في القوقاز؟ ومن ذا الذي يزعم أن الصواريخ والمدفعية تدك المدن والبلدات، وان الطيران لا يكف عن الإغارة على القرى والحواضر؟ هذا كله محض اختلاق، أما الحقيقة، كما يريدها صنّاع الإعلام الرسمي في الكرملين، فلا تتعدى "عملية محدودة ضد الارهاب"، في إطارها "يعمل" الجيش ويتولى سلاح الجو "معالجة مساحات". ما على الشيشاني إلا أن يصدق ان القذيفة التي خرّبت بيته وقتلت أولاده هي جزء من "المعالجة" التي لا يمكن أن تلحق ضرراً، وان الدبابة حين "تعمل" تسحق بجنازيرها بقايا بيوت لم تكن "عالجتها" في الحرب السابقة. وتصر موسكو على أن ما يجري في القوقاز ليس حرباً فهي لم تعلن على رغم أنها زجت بأكثر من مئة ألف عنصر تساندهم راجمات "الاعصار" وطائرات "سوخوي" في عمليات مستمرة منذ ما يربو على خمسة أشهر، ولا يبدو أنها ستنتهي قريباً. بل إن الكرملين لم يجد حتى ما يقتضي اعلان حال الطوارئ، لذلك فإن الاعتقالات العشوائية وتفتيش البيوت والسيارات وتحديد الإقامة ومنع التجول هي اجراءات لا شرعية تنتهك الدستور الروسي، ناهيك عن القوانين الدولية. هل كان ثمة ارهاب وارهابيون في الشيشان؟ لا يمكن بالطبع ايجاد مبرر لخطف الرهائن وعرض الرؤوس المقطوعة لموظفي الهيئات الدولية، والمطالبة بفدية لاطلاق محتجزين. وليس هناك ما يفسر صمت غروزني عن عبور شيشانيين يحتلون مناصب في مجلس الأمن القومي المحلي، حدود داغستان، على رغم وجود شواهد ومؤشرات إلى أن هذه العملية تمت بالتواطؤ مع جهات معروفة في موسكو. الحرب، عفواً، "حملة مكافحة الارهاب"، أسفرت حتى الآن عن مقتل الآلاف وتهجير حوالى مئتي ألف لاجئ وتدمير مدن وبلدات، لكنها لم تحقق أياً من أهدافها المعلنة ولم تتمكن القوات الفيديرالية الروسية من إصابة أو اعتقال أي من المتهمين بقيادة عمليات "ارهابية"، بل إن هؤلاء لا يكفون عن الادلاء بتصريحات صحافية، أي أنهم يعلنون باستمرار وجودهم وتحديهم الملاحقة. وأوقعت موسكو نفسها في مطبات يصعب الخروج منها، فهي في البداية أكدت أنها ستواجه سبعة آلاف ارهابي، ثم أعلنت أخيراً أنها قتلت منهم عشرة آلاف وجرحت ضعفي هذا العدد. وعلى رغم ذلك، يقول نائب رئيس الأركان العامة فيكتور مانيلوف إن "الارهابيين حافظوا على العمود الفقري" لقواتهم. هل ثمة خطأ في الحسابات أم أنها محاولة لاخفاء الحقائق؟ الأرجح ان القوات الفيديرالية تواجه مقاومة تؤيدها وتعززها فئات واسعة من الشعب الشيشاني، ويقودها الرئيس أصلان مسخادوف الذي كانت موسكو وقعت معه معاهدة، نص أحد بنودها على عدم اللجوء إلى القوة لحل أي خلاف بين الجانبين. وروسيا اليوم نقضت المعاهدة، بل أسقطت الصفة الشرعية عن مسخادوف، لأنه "لم ينتخب وفق الدستور الروسي". ويبدو ان موسكو لم تكن تعرف هذه الحقيقة حين وجه الرئيس السابق بوريس يلتسن تهنئته إلى مسخادوف اثر انتخابه، أو عندما أجرت معه محادثات مطولة في شأن تسوية العلاقات بين الطرفين. واضح ان الاعتراف بشرعية مسخادوف يترك هامشاً للتفاوض، لكن أصحاب القرار في الكرملين لا يجدون غير القوة حجة، ويؤيدهم ناتان شارانسكي وزير الداخلية الإسرائيلي الذي بدا خلال زيارته موسكو واحداً من غلاة الصقور، ودعا إلى تحالف روسي - إسرائيلي لمواجهة "التطرف الإسلامي"، محذراً من "المساومة" مع الشيشانيين. هذه الدعوة السافرة إلى الفتنة الدينية لم تجابه برد من موسكو التي تبدو ميالة إلى الأخذ ب"نصح" شارانسكي وتجاهل نصائح أصدقائها وشركائها في الشرق والغرب.