جوناثان كوفمان كاتب أميركي يهودي شديد التعصب ليهوديته وللصهيونية، اشتهر بتعليقاته التي ظل ينشرها لسنوات طويلة في جريدة "بوسطن غلوب" وحاز عليها جائزة بوليتزر. لكنه على رغم كل ما أحرزه من شهرة ونجاح ظل يشعر بالاغتراب في المجتمع الأميركي الذي يعيش فيه والذي يفترض أنه ينتمي إليه، وهو نفسه يقول في ذلك: "إنني أدرك أنني وعائلتي كنا دائماً نشعر باعتبارنا من اليهود اننا أغراب عن هذا المجتمع". اهتم كوفمان في الثمانينات الماضية بالذات، بمشكلة العلاقة بين الجماعات العرقية في أميركا، خصوصاً العلاقة بين السود واليهود باعتبارهما أكبر الاقليات في المجتمع الأميركي المؤلف معظمه من المسيحيين البيض. وفي كتاب أصدره العام 1988 عما يسميه "التحالف المكسور" حاول أن يتتبع تاريخ العلاقة بين هاتين الاقليتين المؤثرتين في الحياة الاجتماعية والسياسية في أميركا، وميّز في ذلك التاريخ بين ثلاث مراحل مختلفة هي التعاون ثم المواجهة او التصادم ثم أخيراً التنافس والصراع، ويبدو أن هذه المرحلة الاخيرة هي التي لا تزال قائمة ومستمرة حتى الآن، وعبرت عن نفسها بوضوح شديد في الآونة الأخيرة حين اختار نائب رئيس الولاياتالمتحدة الديموقراطي آل غور شخصية يهودية هو السناتور جوزيف ليبرمان لكي يكون نائباً له في حال انتخابه رئيساً في انتخابات 2000. فقد قوبل ذلك الاختيار بالاستياء والمعارضة والتشكك من فريق كبير من السود الذين لا يثقون في نيات اليهود وأهدافهم، وفي ما قد يحدث إذا فاز غور بالمنصب ثم مات او اغتيل لسبب من الاسباب واصبح ليبرمان اليهودي المتشدد رئيساً للولايات المتحدة. وكما هو معروف فقد أعلن عن هذا التشكك أحد زعماء الزنوج الإقليميين في أميركا وهو لي ألكورن، الناطق باسم الرابطة الوطنية لتقدم الملونين في إحدى الولايات، وأقام تشككه على أن اليهود يهتمون في المحل الأول بمسائل المال وما شابه ذلك من الأمور، وأنه يجب على هذا الأساس التريث والحرص والحذر في إسناد مثل هذه المناصب العليا لهم. وأثار ذلك التصريح ثائرة اليهود واتهموا ألكورن بمعاداة السامية - وهي التهمة الجاهزة دائماً - وانصاع - رهباً أو رغباً - فريق من السود لهذا الاتهام واضطر الرجل الى الاستقالة تحت وطأة الهجوم، مع أنه كان يعبر بغير شك عن رأي قطاع كبير من زنوج أميركا. فقد دلّ أحدُ الاستطلاعات التي اجريت على عدد كبير من السود حول نظرتهم الى اليهود الى أن حوالى 40 في المئة من الذين أجري عليهم البحث يرون أن اليهود يتمتعون بقدر من السلطة في المجتمع الأميركي أكبر بكثير من حجمهم ومما يجب أن تكون عليه الأوضاع السليمة. والواقع أن السود في أميركا عموماً بما في ذلك الذين اعترضوا على تصريحات لي ألكورن، كانوا يتساءلون عن الحكمة من اختيار يهودي وليس زنجياً أو حتى من اصل أسباني ليكون نائباً للرئيس الديموقراطي في حال نجاحه في الانتخابات. بل إن أجهزة الإعلام الناطقة باسم زنوج أميركا كانت تثير قبل إعلان اسم ليبرمان مسألة خلو قائمة المرشحين للمناصب العليا في الادارة الجديدة من أي شخصية زنجية، على رغم أن نسبة كبيرة من السود يؤازرون الحزب الديموقراطي لسياسته التقدمية. والأرجح، كما يقول كثير من الباحثين الأميركيين المهتمين بمشكلة العلاقة بين الأعراق المختلفة في أميركا، أن السود الأميركيين عموماً لهم مواقف معادية للسامية على رغم ان كل ما يقال علناً غير ذلك، وأن عداءهم لليهود يفوق بمراحل عداء المسيحيين البيض في الجنوب الأميركي، وان حال القلق والتوتر التي أثارتها تصريحات لي ألكورن نشأت عن إدراك انه كان يعبر في حقيقة الأمر عن آراء نسبة كبير جداً - قد تكون هي الغالبية - من السود. وعلى أي حال فلم يكن كتاب التحالف المكسور الذي أشرنا إليه هو الكتاب الوحيد - او حتى أول كتاب - يشير الى الوضع المتأزم بين السود واليهود في أميركا. فقد ظهرت حول هذه المسألة كتابات ودراسات كثيرة ترجع الى أواخر الستينات واوائل السبعينات حين بدأ التوتر والشك المتبادل يظهران على السطح بعد انتهاء مرحلة التعاون وبداية مرحلة المواجهة والتصادم التي يشير إليها جوناثان كوفمان. وبدأت مرحلة التعاون بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة للظروف التي أدت من ناحية إلى هجرة أعداد كبيرة من يهود أوروبا الى أميركا تحت وطأة الاضطهاد الأوروبي عموماً والألماني النازي خصوصاً لليهود، كما أدت من ناحية أخرى الى ظهور نزعات الاستقلال في المجتمعات الخاضعة للاستعمار ومطالبة زنوج أميركا بالمساواة في الحقوق مع البيض، وساعدهم على مواصلة السير في هذا الطريق منذ الخمسينات صدور الاحكام القضائية ضد التفرقة العنصرية في المدارس. وكان لا بد من البحث عن مؤيدين لهم من الأميركيين الليبراليين ووجدوا في اليهود أقرب جماعة يمكن ان تتفهم مطالبهم نظراً لتشابه الأوضاع، فقد كان اليهود المهاجرون الى أميركا بعد الحرب العالمية الثانية يسعون إلى إقرار مبادىء الحقوق المدنية للجميع وعدم التفرقة بين المواطنين بسبب اختلاف الدين او العرق وبذلك تقارب السود واليهود لتحقيق الأهداف المشتركة. وليس من شك في أن اليهود ساعدوا السود في الجنوب الأميركي ودافعوا عن مطالبهم من خلال المحامين اليهود الذين تولوا القضية أو من خلال الإسهامات المالية السخية نظرا لفقر السود، وهو الأمر الذي يعترف به السود أنفسهم، او من خلال الشباب اليهودي في المسيرات التي كان السود ينظمونها، حتى أنه يقال إن عدد طلاب الجامعات اليهود الذين توجهوا من الشمال للمشاركة في حركة الحقوق المدنية العام 1964 كان أكبر من نصف مجموع المشاركين في تلك الحركة العلنية. بل إن أحد كبار مستشاري الزعيم الزنجي الشهير مارتن لوثر كنغ كان اليهودي ستانلي ليفيسون الذي كانت وكالة الاستخبارات المركزية تعتبره ماركسياً على جانب كبير من الخطورة. وفي المسيرة التي تم تنظيمها العام 1963، بقيادة مارتن لوثر كنغ نفسه، والتي اتجهت نحو واشنطن ذهب كثير من الاميركيين الليبراليين الى أن اليهود والسود أو الاميركيين الافارقة يؤلفون ائتلافاً او تحالفاً طبيعياً نظراً لتشابه المطالب والاتحاد أو التعاون الذي يكاد يقترب من الاندماج. ولكن، لم تلبث الشكوك أن وجدت طريقها الى ما يسميه كوفمان وغيره ممن كتبوا في الموضوع التحالف أو الائتلاف وأن اليهود يسخرونه لمصلحتهم الخاصة ولتقوية مراكزهم في المجتمع الأميركي على حساب السود، وأن مشاركتهم في حركات الحقوق المدنية كان تهدف الى اندماجهم في المجتمع الأميركي الأبيض من دون وضع الحلفاء السود في الاعتبار، وأن ما كان يبدو تحالفاً او ائتلافاً كان في حقيقة الأمر وسيلة لتحقيق أهداف اليهود بالذات ولم يكن غاية في ذاتها. وزاد من شكوك السود أن اليهود على رغم كونهم أقلية عرقية ودينية في المجتمع الأميركي المسيحي لم ينسوا قط أنهم أقلية بيضاء وهي صفة تعطيهم شيئاً من التميز عن السود في سلم التدرج الاجتماعي، لذا بدأوا يعاملون السود بكثير من التعالي، او هكذا السود يشعرون أو ربما يتخيلون. وزادت الشكوك في السبعينات نتيجة لقيام علاقات قوية بين إسرائيل وجنوب افريقيا أكبر معقل للتفرقة ضد السود واضطهادهم، ثم محاولة يهود أميركا تبرير هذه العلاقة على أسس عقلانية لم تكن تتقبلها عقول السود ولا مشاعرهم، وأدركوا أن عدوهم الحقيقي في أميركا هم اليهود الذين تنبغي مواجهتهم بكل الوسائل. ولا يزال هذا هو الشعور السائد على رغم كل المحاولات للقضاء على هذا الشعور والتي يقوم بها دعاة حقوق الانسان والحقوق المدنية من السود أنفسهم من أمثال القس جيسي جاكسون. وعلى ما تقوله مجلة "نيويورك تايمز" لعرض الكتب في عددها الصادر في الثاني من كانون الاول ديسمبر العام 1999 فإن ما كان يبدو تحالفاً طبيعياً بين السود واليهود اثناء مسيرة مارتن لوثر كنغ الى واشنطن العام 1963 ظهر عكسه تماماً العام 1995 حين نظم الزعيم الزنجي المسلم لويس فرقان مسيرة المليون شخص إذ بدا بوضوح أن السود واليهود افترقوا تماماً وأن الصراعات بين الفريقين وصلت الى أعماق بعيدة، وأن لم يمنع ذلك من قيام بعض الجهود لرأب الصدع والتقريب بين الجانبين من أجل المصلحة المشتركة أو الهدف المشترك. ولعل من أهم ما بذل في ذلك الصدد هو تعاون جامعة هارفارد الزنجية مع "اللجنة اليهودية الأميركية" العام 1996 في إصدار مجلة Common Quest التي يعرّفونها بأنها "مجلة العلاقات اليهودية - الزنجية". وأحتوى العدد الأول الذي صدر في ربيع ذلك العام على عرض لكتاب مهم كتبه استاذ يهودي هو مري فريدمان تحت عنوان له دلالته وهو "أين الخطأ؟ قيام وانهيار التحالف بين اليهود والسود". والظاهر أن هذه الجهود لم تفلح في إزالة الخلافات والقضاء على الشكوك. لكن اليهود نجحوا، بغير شك، في تحقيق ما لم يستطع السود تحقيقه في مجالات السياسة والاقتصاد الى جانب الإعلام وذلك بفضل تماسكهم الشديد الذي يستحق الإعجاب، وكذلك - وهذا هو الأهم - لأنهم يعرفون تماماً ماذا يريدون ويسخرون له كل قدراتهم، بل أيضاً قدرات الآخرين لتحقيق تلك الأهداف من دون مبالاة بآراء الآخرين فيهم. وهذه المثابرة الشديدة على العمل من أجل توطيد مكانتهم في المجتمع بمختلف الوسائل هي ذاتها مؤشر على شعور اليهود بعدم الأمان والإحساس بالاغتراب حتى في المجتمع الاميركي المفتوح. ويكفي أن نتذكر أنه حين أُعلن اختيار السناتور ليبرمان ليكون نائباً لرئيس الولاياتالمتحدة في حال فوز الديموقراطيين في انتخابات 2000 صرخت زوجته هاتفة: "الآن... هذه خطوة رائعة على طريق الاندماج!". * انثروبولوجي مصري.