عندما جاب بيل كلينتون غرب القارة الافريقية ووسطها وشرقها قبل ما يقارب العامين، توّج زيارته التي أمضّت الفرنسيين آنذاك باعتذار شهير أطلقه في جزيرة جوري في السنغال عن تجارة العبيد التي خضعت لها القارة السوداء طيلة قرون ثلاثة من قبل أوروبا في الشمال والعالم الجديد في الغرب. تلك الجزيرة كانت المشهد الافريقي الأخير، أو "مخزن البضائع" لملايين العبيد المكبلين بالسلاسل والمكدسين في حجرات التخزين بانتظار قدوم سفن الشحن. آنذاك قيل ان ما يجرح في الصدقية الانسانية للاعتذار الكلينتوني وينسبه الى عالم المصلحة القومية العارية هو عدم ترتب أية اكلاف عليه، وصدوره عن استراتيجية متجددة مهمومة بمناكفة الفرنسيين في موقع أثير من مواقع نفوذهم الافريقية. واليوم، وبعيد زيارة كلينتون هانوي، يتأكد ذلك القول، اذ يغيب الاعتذار الاميركي عما اقترفه العم جونسون في حق فيتنام والفيتناميين طيلة سنوات الحرب النابالمية الوحشية. ويتم تجاهل الاعتذار المطلوب بإهالة أرتال الرطانة حول "المعاناة المشتركة للامتين الاميركية والفيتنامية"، التي ستتحول من الآن فصاعداً الى علاقة قوية ومشتركة بحسب ما اعلن الرئيس الاميركي. واذا تساءلنا ما الذي أعاق تطور تلك المعاناة المشتركة، ما دامت موجودة بمثل العمق الذي عبر عنه كلينتون، باتجاه تعاون مشترك، فإن علينا ان نتذكر ان رفات عدة مئات من الجنود الاميركيين القتلى خلال الحرب ظلت مفقودة ولم تتعاون هانوي للعثور عليها، وبالتالي فانها كانت السبب المعيق. بل ان جريمة هانوي كانت في انشغالها بحصر أسماء الملايين الثلاثة الذين قتلوا من شعبها في الحرب، وبتحديد المساحات الشاسعة من أراضيها التي لا زالت حبلى حتى اللحظة بالألغام الاميركية ومحرمة بالتالي على فلاحيها. لم يرتق كلينتون الى مستوى الصوت النادم الذي أطلقه قبل ثلاث سنوات روبرت مكنمارا وزير دفاع جونسون، ممتلكاً الشجاعة الكافية للاعتذار عن جريمة فيتنام ومعبراً عن الندم من جراء الانخراط فيها. وما تثمين الرئيس الاميركي ل"تضحيات الشعب الفيتنامي" خلال الحرب إلا محاولة باردة للالتفاف على الاعتذار الذي سيظل برسم التحقيق طوال سنين تالية. فالفيتناميون الذين عوقب بلدهم وسُحقت جماعاتهم بجعلها ميداناً من ميادين حرب الجبابرة الاميركان والروس والصينيين، فأُنهكوا وأعيق نموهم عقوداً عدة الى الوراء، هم أحوج الى الاعتذار من ملايين السود الذي استُرقوا وما عادت لصيحات أحفادهم بالتعويض أو تعديل المشهد التمييزي المتوارث والمكشوف حتى الآن أدنى تأثير. الاعتذار الاميركي لفيتنام يعني الاعتراف بالخطأ، وبالتالي بروز مسؤولية قانونية مباشرة وفورية لتصحيح ما نتج عن ذلك الخطأ - الجريمة، وهذا ما يبدو بعيداً عن ليبرالية الديموقراطيين المرهونة لمنطق المصلحة القومية الاقصى حينما تغدو مفرغة من الاخلاقيات. وهذا الارتهان هو الذي يجعل دعوة كلينتون الى الفيتناميين لاحترام حقوق الانسان أمام تجمع طلبة جامعة هانوي، وتلقينهم درساً في أهمية التسامح، فارغة اخلاقياً وليس لها معنى سياسياً. لكن هل نحن ملكيون أكثر من الملك، ولماذا الصياح وهانوي نفسها يلفها الصمت ازاء المطالبة بالاعتذار؟ الجواب يكمن في ضرورة "عولمة" الهولوكست الفيتنامي والاعتراف بوحشيته: ألسنا نتحدث عن ثلاثة ملايين ضحية يعادلون نصف عدد الهولوكست اليهودي على يد الألمان؟ أليس النضال من أجل بشرية اكثر انسانية يتطلب مساواة في قيمة البشر بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم وجغرافياتهم، ثم بالتالي ادانة الجرائم التي اقترفت ضدهم بالقدر نفسه من النبرة والاحساس بالالم الانساني العميق؟ ولا يجب ان يقودنا التردي الفيتنامي الحالي الى الاستنتاج بأن ملف الاعتذار طوي الآن الى غير رجعة. فالدولة الأقوى في العالم تعلم ان تجاوز موضوع الاعتذار ما كان ليحصل لولا التردي الاقتصادي والسياسي والفقر المدقع الذي حول فيتنام الى متسول فاشل على أبواب صندوق النقد الدولي في واشنطن، حيث الادارة الاميركية تمتلك مفتاح ال"نعم" أو ال"لا" لأي قرض ينساب من هناك باتجاه هانوي المحطمة. وواشنطن تعلم كذلك ان تعاسة ديكتاتورية هانوي، كسائر الديكتاتوريات العالمثالية، اخرجت الفيتناميين العاديين الى الشارع يطلبون نصرة عدو الأمس ضد حكام اليوم "الوطنيين"، وتجعلهم يدوسون على كرامتهم ويبلعون جراحهم التي لا زالت طرية. واذا كان صحيحاً جداً ان المهم هو المستقبل وليس الوقوع في أسر الماضي، فإن الأصح منه ان مستقبلاً صحياً لا يتقوم الا على تصفية الحساب مع الماضي المريض، وإلا ما معنى تلاحق الاعتذارات من سويسرا بشأن أملاك اليهود الألمان، ومن فرنسا لتورط حكومة فيشي في شحن يهودها الى المحارق، ومن بابا الفاتيكان لتواطؤ الكنيسة مع اكثر من شر هنا أو هناك فوق سطح المعمورة، ثم ايضاً من كلينتون نفسه لافريقيا كلها عن تجارة الرقيق؟