تعرض بيل كلينتون باستمرار لانتقادات اميركية على "نقطة" في سجله، مفادها انه رفض المشاركة في حرب فيتنام. ولعله استخدم هذه الميزة التي يتمتع بها لبث شيء من المصداقية في الرسالة التي حملها الى هانوي. فهو قصد فيتنام، بعد مضي ربع قرن على اتفاق إنهاء الحرب معها، في زيارة تصالح وتطلع الى مستقبل سلمي للعلاقة الاميركية - الفيتنامية. ولعل نفوره من الحرب زاد من حرارة الاستقبال الذي أعده له الفيتناميون. في فيتنام فقدت الولاياتالمتحدة الكثير من ابنائها. وفي فيتنام مارست الولاياتالمتحدة كل أنواع الوحشية، وجربت كل أنواع الأسلحة، ثم خرجت منها بسجل جرائم أثقل على وجدان مجتمعها، كما خرجت بهزيمة وبكمّ من العقد النفسية التي لم تفلح كل الانتصارات بعدها في محو آثار تلك الهزيمة. قد تكون زيارة كلينتون لهانوي التتويج الوحيد لنهاية عهده، وقد تكون أيضاً بداية الخروج الحقيقي من "العقدة الفيتنامية". وفي أي حال تعود الولاياتالمتحدة اليوم الى فيتنام، بعد تغيير عميق في المشهد الدولي. فأميركا هي الآن الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وبالتالي، فإنها القوة الاستعمارية الوحيدة ايضاً، وتعاني من سياستها دول كبيرة كالتي ساندت فيتنام في حربها، فضلاًَ عن الدول الصغيرة. وفي الوضع الراهن لم تعد الدول لتصنف كمستقلة أو مستعمرة وانما ك"متكيفة" مع الاستعمار الاميركي، أو "متعايشة" معه أو "خاضعة" كلياً أو جزئياً له، أو انها "موظفة" لديه ومن أدواته، اما الدول القليلة "المتمردة" فتعامل كمنبوذة. لا يعرف أي رئيس اميركي مقبل سيكون الشرف التاريخي لمخاطبة العرب بلهجة التصالح التي سمعتها هانوي من كلينتون. ولا يُعرف متى سيكون بإمكان هذا الرئيس ان يتخلص من "عقدة" العداء للعرب المزروعة في الادارة الاميركية بشكل "بيداغوجي" وبنهج تلقيني لا موجب له سوى الخضوع لإدمان تبني اسرائيل والانحياز لها كما لو أنها ولاية اميركية، بل أكثر اميركية من فلوريدا نفسها. لا العرب ولا الاميركيون اختاروا حال العداء هذه، وليس في تاريخهم ما يفسرها أو يبررها. اسرائيل هي التي اختارت واميركا هي التي قبلت الاختيار. اسرائيل هي التي استفادت من ظروف الحرب الباردة وصراع الشرق والغرب واميركا هي التي حافظت على استمرار تلك الظروف وادامتها على رغم انتهاء ذلك الصراع والتغيرات التي نجمت عنه. وأبدت اميركا على الدوام استعداداً فطرياً لاحتقار كل صداقاتها العربية، القديمة منها والمستجدة، من اجل اسرائيل. كما اثبتت اميركا على الدوام ان الحرب الوحيدة التي لا تعترض على خوضها هي حرب اسرائيل ضد العرب، حتى بعدما طرحت "عملية السلام" كمشروع سلم اميركي للشرق الأوسط. تجاهلت الولاياتالمتحدة على الدوام كل عمليات التخريب المنظم التي نفذتها اسرائيل داخل "عملية السلام"، وتجاهلت في الوقت نفسه كل ما بذله العرب لانجاح هذه العملية. اهتزت الثقة كلياً بين العرب واميركا، لكن هذه الأخيرة لم تهتم لأن مصالحها الحيوية المباشرة لم تتأثر. من الواضح ان لديها هدفاً أو مصلحة واحدة تريد تحقيقها، وهي ان يتعامل العرب مع اسرائيل على انها هي اميركا نفسها، وان يقبلوا ما تمليه عليهم. عندئذ ربما تحين فرصة خطاب التصالح الاميركي مع العرب، ولأجل ذلك يفترض في الولاياتالمتحدة ان تعين اسرائيل رسمياً قوة عظمى وحيدة في الشرق الأوسط. من الواضح ان مراوحة الموقف الاميركي بين الانحياز ومحاولة اعادة اطلاق المفاوضات، تعود في الأساس الى غموض دوافع الولاياتالمتحدة حيال العرب. فالسلام متاح لكن الانحياز لاسرائيل يقتله. فما العمل؟