"الأمان الوحيد في حضن الأمة". هذه العبارة كُتبت على احدى اليافطات التي رفعها انصار بينوشيه، حين عاد الى سانتياغو في 3 آذار مارس الماضي بعد اقامة جبرية في لندن مدة 17 شهرا. لكن يبدو ان "الأمة" لم توفّر الأمان لابنها البار. فهو سيواجه تهماً تتصل بنشاطات انصاره من الرعاع المسلح عقب انقلابه العسكري في 1973 وعلى دوام سنوات حكمه ال17. ذاك ان 3197 شخصاً، على الاقل، قضوا او اختفوا، بحسب تقرير رسمي يتداوله التشيليون اليوم. والجنرال العجوز لا يملك اي سمة ترفعه عن مصاف العادية. فاذا أجاز بعض غير العاديين لانفسهم التحكّم بحياة غيرهم، فأفعال الديكتاتور التشيلي لم تستطع ان تقنع كثيرين. لقد ولد اوغستو بينوشيه اوغارتي في 26 تشرين الثاني نوفمبر 1915 في مدينة فالباريسو الساحلية على المحيط الهادىء. أبوه كان موظف جمرك، لكن امه هي التي لعبت الدور الابرز في حياته، فأقنعته بالانخراط في الجيش. ولاحقاً كان لامرأة أخرى الدور الثاني: انها زوجته لوسيا، الصادرة عن بيت سياسي تقليدي طمح الى تقليده، والتي شجّعته على متابعة طموحاته من خلال السلك العسكري. ومثل كثيرين من "الاقوياء" الذين رعت النساء نشأتهم، تشرّب الضابط الشاب حس النظام وكراهية الفوضى. وكان الجيش التشيلي ينسج على منوال التقاليد البروسية فتعلّم منها "الواجب" و"الدفاع عن القوانين". وظهرت الترجمة الاولى لذلك مطالع الخمسينات حين تولى اوغستو توجيه ضربة قوية الى الحزب الشيوعي التشيلي. مذّاك عمل مناخ الحرب الباردة على صقله. الا انه كان من العادية بحيث اقتصر تسييسه على مجرد واجبات أمنية او قمعية. وكانت المفارقة ان الذي رقّاه، اوائل السبعينات، الى جنرال كان النظام اليساري لسلفادور اليندي، لمجرد انه غير معروف بطموح سياسي. هكذا عُيّن في حزيران يونيو 1973 قائداً للجيش لأن اليندي ظن، مخطئاً بالطبع، انه ممن يمكن الثقة بنظاميتهم وولائهم للدستور. لكن لم تمض غير اشهر قليلة حتى اكتشف الرئيس كم كان مخطئاً، وكان السيف قد سبق العذل: ففي ايلول سبتمبر انقضّ قائد الجيش وضباطه على السلطة. وسريعاً ما بدأت الأرقام تزداد اصفاراً في الانقلاب الاميركي اللاتيني الاكثر دموية في القرن العشرين: فإلى المختفين والقتلى، ومنهم اليندي نفسه، عُذّب آلاف وتوجّهت آلاف اكثر الى المنفى. وتجسدت ذروة الانتهاكات في "قافلة الموت": فلأيام من تشرين الأول أكتوبر طاف زعران ألبسوا انفسهم ثياباً عسكرية المدن الصغرى والبلدات، فقتلوا العشرات من مؤيدي العهد السابق. وجعل هؤلاء يُخرجون المساجين من زنزاناتهم وينفذون بهم احكام الاعدام. لقد حلّ بينوشيه البرلمان وعطّل الدستور ومنع كل نشاط حزبي او نقابي، كما اخضع الصحافة لقيود صارمة. وفي 1974 عيّن نفسه رئيساً للجمهورية فتحولت الكنيسة الكاثوليكية، في ظل غياب كل معارضة، صوت النقد الضميري الاوحد. ولئن برر اجراءاته دائماً بقوميته المضادة للشيوعية، والمانعة للفوضى، فان اداءه الاقتصادي كان نقطة قوته الوحيدة التي وسّعت قطاع مؤيديه. فقد نزع التأميم عن الشركات، وازاح العوائق التجارية مشجّعاً الواردات الاجنبية ومركّزاً على التصدير الخارجي. وهذا لم يكن بالطبع كافياً لاستئصال المعارضة. ففي اواسط الثمانينات عاد خصومه ليتجمّعوا وينظّموا احتجاجاتهم التي خاطبت فئات متعاظمة، فيما حاول ضباط يساريون نجوا من حملات تطهير الجيش اغتياله عام 1986. ويبدو ان الجنرال اساء تقدير حجم النقمة فسمح لنفسه ان يصدر دستوراً جديداً، عام 1980، يحدد موعداً زمنياً لانتخابات رئاسية. واتاح الدستور الدعوة الى استفتاء حول جواز ان يكون بينوشيه المرشح الاوحد. لكن النتيجة جاءت، لخيبته وعظيم مفاجأته، على غير ما توقّع. هكذا تنحّى متردداً بعد عشر سنوات على الدستور. غير انه ضمن لنفسه البقاء حيث ارسلته أمه في شبابه، وحيث باركته زوجته: قائداً للجيش. وغالباً ما استخدم بينوشيه هذا الموقع لضمان اغلاق ملف الانتهاكات التي شهدتها ولايته. وفعلاً لم تتراخ قبضته في هذا المجال رغم تحولات عاصفة تعرّض العالم لها في تلك الغضون: من انتهاء الحرب الباردة الى شيوع افكار المجتمع المدني وحقوق الانسان ومراجعة اساءات الماضي. فحين تنازل اخيرا، في 1998، عن موقعه في الجيش احتل مقعده عضواً في مجلس الشيوخ مدى الحياة، وهو منصب كان اخترعه لنفسه ولآخرته بموجب دستور 1980. وقبل ايام تكدّر عيد ميلاده الخامس والثمانين بأخبار البيرو: فالذئب العجوز المترهّل ذو العينين الصغيرتين، لا بد ازعجه تقديم البرتو فوجيموري استقالته من احد فنادق طوكيو، بعد انكشاف الفضيحة التي تورّط فيها احد مساعديه بالنيابة عنه. واغلب الظن ان الجنرال تخوّف وارتاب: فما بدأ في العالم الخارجي، في مدريدولندن، بدأت تظهر انعكاساته في اميركا اللاتينية. وما هي الا ايام قليلة حتى صدرت مذكرة التوقيف بحقه في "الأمة" التي يُفترض بها ان تمنحه الأمان! فهل "يثبت" في سانتياغو ما "ثبت" في لندن من انه مصاب بأعطاب ذهنية او جسمانية تحول دون الحكم عليه؟ الساخرون يقولون: لا بد ان بينوشيه منذ شبابه الأول كان مصاباً بأعطاب، والا ما كان ليرتكب ما ارتكبه...