تؤثر النزاعات المسلحة في الأوضاع النفسية للمدنيين، ولا سيما منهم فئة الأطفال التي تشمل أيضاً بحسب الاتفاق الدولي لحقوق الطفل فئة الشبان حتى سن الثامنة عشرة. إذ ان التعرض الطويل الأمد للصدمات والقلق والضغط من جراء الحرب، يترك بصماته على البناء العقلي والنفسي، وأحياناً الجسدي للطفل. والحرب لا تهدف فحسب الى تشويه الجسد، بل وإلى الطاقات العقلية والنفسية للآخر، وعليه يُرهن البقاء على قيد الحياة، الى حد كبير، بالقدرة على الحفاظ على النفس، بما تتطلبه من امكانات جسدية وعقلية ونفسية. لم يتفق علماء النفس، الذين بحثوا عن تأثيرات الحروب في الأطفال، على مجمل الاستنتاجات التي خلصوا إليها. وكان التركيز على المدى القصير أكثر منه على متابعة الحالات على المدى الطويل. لكن من المسائل الأساسية التي اتفقوا عليها: الدور الرئيس الذي تؤديه البيئة المحيطة، في حماية الطفل وصحة بنيانه النفسي والعقلي والجسدي. خصوصاً في السنوات الأولى من عمره، حيث يعيش الحدث ويتعرف الى العالم من خلال هذه البيئة. إنها في الدرجة الأولى الأسرة، ثم تأتي المؤسسات الحكومية التي تعنى برعاية الطفولة والشبيبة وكذلك جمعيات المجتمع المدني المختصة. وبما أن الأسرة هي مركز الثقل الأساسي، خصوصاً الأم لقربها الكبير من أبنائها وتأثيرها الشديد فيهم، خصوصاً في مراحل الطفولة الأولى، فعلى العناصر الأخرى التي هي جزء فاعل في هذا المحيط، مساعدتها على القيام بأعبائها. وأظهرت الأبحاث أهمية دور الأم وانعكاس توازنها النفسي وتماسك شخصيتها وقوة قدرتها على الاحتمال والصمود وامتصاص الصدمات، إيجاباً على حماية أطفالها من تأثيرات الحرب وأهوالها. لكن هذا لا ينفي دور شخصية الطفل وتأثير الصفات التي يتميز بها سلباً أو إيجاباً في ردود فعله على الصدمات التي تواجهه. من هنا، فكل حال هي خاصة لا تسمح بالتعميم ولا بإطلاق التنبؤات جزافاً. فالأطفال يتباينون، في ما بينهم، في قدرتهم على مواجهة الخطر من دون إلحاق الأذى الشديد بأنفسهم. وبغض النظر عن وجود اختلافات في المواقف من الأحداث وفي طريقة قراءتها، وعن أهمية التأثيرات النفسية لما تشهده اليوم الساحة الفلسطينية على المدى الطويل، فإن ما نراه عند أطفال الانتفاضة العزل ومواجهتهم الجيش الاسرائيلي المدجج بالسلاح بشجاعة وتصميم، يؤكد امكان التأقلم مع الحروب وأهوالها، واحتمال التعايش مع الموت، عند شبان في مقتبل العمر. ففي التعرض للأخطار ومقارعة الموت ما يؤكد أهمية الحياة في ظل الحرية والكرامة. وحال الاستلاب الرئيسة لا تأتي من مشاركة الطفل والشاب في الدفاع عن حقوق الجماعة وإنما من سلب المحتل الطفل الفلسطيني أهم حقوقه الفردية والجماعية. وبهذه المشاركة ما يحول الشاب في نظر نفسه والعالم من حوله، من وضع الضحية المسحوقة الى شيء آخر ذي قيمة، ما يقوي معنوياته وثقته بنفسه ويزيد قدرته على الاحتمال والصمود في مواجهة الآلة العسكرية الاسرائيلية، وموقف الرأي العام العالمي من قضيته. إذ ان استتباب الأمن بالنسبة الى الطفل الفلسطيني هو استتباب الاحتلال، والسلام الذي قدم اليه إنما هو كلمة مفرغة من معناها لا ترد حقوقاً ولا تمنح عدالة. وفي المقابل، يبدو الاسرائيليون اليوم، أو على الأقل معظمهم، كأنهم لم يفيدوا من دروس معاناة اليهود على يد النازيين، وما خلفت هذه التجربة من روح مقاومة وتضامن. ولم يفهموا أن ما فرضوه بدورهم على ضحاياهم يمكن أن ينتج عنه، لدى هؤلاء، ردود فعل مشابهة. فهم ليسوا فئة متميزة عن غيرها، ومعروف أن الآليات النفسية الأساسية التي تتحكم بالانسان لا تختلف بين عرق وآخر أو دين وآخر. وعدوانية المرء تتأثر بعدوانية الآخر في الجهة المواجهة، خصوصاً عندما لا تخضع تصرفات هذا الآخر لمنطق المحاسبة. يمكن إذاً أن نسلّم جدلاً بوجود عامل التأقلم مع الحرب، وأن الفعل في الأحداث يقلل من التوتر الناتج عن هذا الوضع بتحويله أمراً آخر، وأن مواجهة الخطر تفترض صلابة أكبر لدى من يواجه ويشارك، من ذلك الذي لا يسهم فيها ويكون ضحيتها. لكن هذا لا يسمح بالقول إن الحرب لا تؤثر سلباً في من يعيش في ظلها ويحرم، زمناً قد يطول أو يقصر، مقومات الحياة التي يجب أن تتوافر لبني البشر، ولا سيما منهم الأطفال. ثمة وضع يصعب تحمله فرض على الأطفال الفلسطينيين، فلم يبق لهم خيار سوى مواجهته. ولكن لا يمكن، في أي حال، غض الطرف عما يحمله تراكم الأحداث نتيجة هذا الوضع من تأثيرات في حالهم النفسية وقدرتهم على الاحتمال. فكل يوم يمر يحمل عدداً أكبر من الضحايا بينهم، إضافة الى مشكلات جانبية عدة تنتج من الإعاقة والمرض وحرمان الدواء والغذاء. واستطاع أطفال الانتفاضة، بلجوئهم الى الحجارة من أجل الدفاع عن كرامتهم، أن يعدلوا في موازين القوى. ولكن الى متى يمكنهم أن يصمدوا على هذا الشكل من دون أن يكون الثمن المدفوع أغلى مما نتصور؟ لقد سمحوا بعملهم هذا لشرائح واسعة جداً في العالم العربي أن تجد نفسها فيهم وأن تتفاعل معهم وتطالبهم بالاستمرار والصمود في وجه الجيش المحتل. ولكن هل يحق لنا، نحن الذين يرونهم على شاشات التلفزة ويسمعون عن بطولاته، أن نكتفي بتأييدهم والتعاطف معهم وأحياناً النزول الى تظاهرات هائجة للتعبير عن غضبنا من حكامنا وتضامننا معهم وإدانتنا المحتل؟ هناك أشكال كثيرة لمساعدتهم، وهي، على رغم أهمية ما حدث، ليست معنوية فقط. إذ يمكن كل فرد أن يفعل شيئاً لو حول نقمته فعلاً وترجمها واقعاً. والعبرة والذكاء السياسيان يكمنان في إمكان استغلال الرصيد المتأتي من أهمية رمزية تضامن الشارع العربي مع أطفال الحجارة. عدد من هؤلاء الأطفال لا بد يشعر بالمرارة والشك والخوف والقنوط والتعب وغيرها من مشاعر سلبية بعد مراحل الهيجان والغضب والأخذ بالثأر. وبعضهم يفيق على كوابيس ويرى أحلام رعب في ليال قصيرة لم تعد تعوض الراحة. أليس بينهم من هو في حاجة آذان مصغية وأطر حاضنة تعطيه الفرصة لإخراج ما تراكم في طيات لا وعيه وما اختزنته ذاكرته، لئلا يطفو يوماً ما على السطح في أشكال قد لا تكون مقبولة اجتماعياً؟ كثر منهم فقدوا أخاً أو صديقاً أو عزيزاً، كانوا قربه في مواجهة المصفحة الاسرائيلية. وما يواجهه بعضهم يضاف الى مرحلة صعبة يعيشونها على الصعيد الشخصي، هي مرحلة المراهقة بكل ما تحمله من تأزمات وإشكالات خاصة بها. فأين نحن منهم وهم يودعون طفولتهم التي لم يتسن لهم أن يعيشوها كما يعيشها أبناء العالم المحمي من هذه الأوضاع غير الانسانية في ظل غياب العدالة؟ لم يتعامل المحتل الاسرائيلي يوماً مع الطفل الفلسطيني كمساو للطفل الاسرائيلي، بل لم يساو يوماً بين الاسرائيلي اليهودي والاسرائيلي العربي في فرص التعليم والصحة والسكن والعمل. منذ البدء، كان على الفلسطيني أن يقبل وضعاً دونياً أو أن ينتفض. وباستثناء أوساط اليسار غير الصهيوني في اسرائيل، كان منطق التفوق لليهودي الاسرائيلي سائداً سواء بمرجعية دينية أو علمانية. وإلا كيف يمكن تفسير العدوانية المستقرة في قطاع غزة بفرض مستوطنات اسرائيلية في المنطقة الأكثر كثافة سكانية في العالم، أو وجود الشارع الأنيق للمستوطن، والشارع المحفر للفلسطيني، أو الاستفزاز اليومي لسكان مدينة الخليل بزرع عدد من المستوطنات في قلبها؟ وكيف يمكن قبول تقطيع الوجود الفلسطيني بالطرق والمستوطنات وجعله سجوناً جماعية في العراء؟ وكيف يمكن الطفل الفلسطيني أن يحلم في ظل كل هذه الكوابيس، إن لم يصنع الحلم بجسده وبالحجارة؟ تحتاج الشبيبة العربية اليوم الى شحنة كبيرة من الشعور بالمسؤولية حتى لا يبقى الطفل الفلسطيني وحيداً في معركته لمقارعة العنجهية الاسرائيلية. والأجدى أن يواكب الانسان العربي الانسان الفلسطيني في معركته من أجل قطيعة ضرورية مع الاستبداد والتسلط، ومع الهزائم المبكرة للكبار الذين صمتوا أو أجبروا على الصمت. ويتم دعم الطفل الفلسطيني، ضحية العدوان، بتحويل مقاومته المستحيل، مقاومة غير مستحيلة، ومواكبة نضاله بتشكيل لوبي مناهض للعدوان الاسرائيلي، وكذلك بمحاولة اختراق المحافل الدولية ومناهضة التطبيع مع القاتل وتقديم كل ما هو ممكن لصمود الطفولة في وجه الظلم. وهذا مرهون برصد الشارع العربي امكاناته، إذ عودنا الحكام الاحباطات المتكررة. قبل أن يقرأ الطفل الفلسطيني اتفاق حقوق الطفل، وجه رسالة الى كل أطفال العالم يقول فيها: لم يعد لدي سوى الحجارة للحصول على حقوقي الفردية كطفل، وحقي الجماعي كشعب، فأين شعوبكم من مساعدتي على استرداد حقوقي المهدورة؟ * باحثة في علم النفس والأمينة العامة للجنة العربية لحقوق الانسان.