انهار المنطق الامني الاسرائيلي لاوسلو مع اشتداد المواجهات بين الفلسطينيين والجنود الاسرائيليين وبعد تدخل الشرطة الفلسطينية في حالات معينة الى جانب المتظاهرين الفلسطينيين. وكان المنطق الامني الاسرائيلي لاوسلو يتمحور حول الاتفاق الامني بين الطرفين الذي يهدف الى منع اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة على سياق انتفاضة ال 1987. وهذا ما كان تبجح به وزير الخارجية الاسرائيلي بالوكالة شلومو بن عامي عندما سئل عن امكان اندلاع انتفاضة جديدة بسبب تعثر المفاوضات، فأجاب ان المنطق وراء وجود السلطة هو منع مثل هذه الظاهرة. واعتبر الاسرائيليون ان حادثة النفق وما نتج عنها من مواجهات عام 1996 هي الشواذ الذي يؤكد القاعدة. وبالفعل، اتخذت القوات الاسرائيلية كل الاحتياطات لكي لا تتكرر انتفاضة النفق... ولكن من دون نتيجة. رفض الفلسطينيون ان يلعبوا دور الجنرال انطوان لحد خصوصاً بعدما شاهد بعضهم مصيره بأم العين. واعتبرت القيادة الفلسطينية ان ليس من مهماتها حماية الجنود الاسرائيليين في الوقت الذي تستفز اسرائيل مشاعرهم القومية والدينية، وفي الوقت الذي ترفض فيه تنفيذ الاتفاقات الموقعة. واذ اقتربت قوات الامن الاسرائيلية من مناطق الفلسطينيين لاحتواء الانتفاضة بالقوة وللتأكيد بأن الحياة في المستوطنات القريبة من المدن العربية هي حياة طبيعية، وجد الاسرائيليون انفسهم في تلك المواقع التي دافعوا عنها في انتفاضة ال 87 حيث حصدوا عدداً كبيراً من القتلى وخسروا المعركة على الشارع وعلى الارض. وكان نائب رئيس المخابرات الاسرائيلي صرح لمجلة المستوطنين "نكودا" قبل اندلاع المواجهات الاخيرة قائلاً: "لقد خسرت اسرائيل الانتفاضة الاولى وستخسر الانتفاضة القادمة". وبالفعل، وعلى رغم استعدادات اسرائيل وتخطيها اخطاء مواجهات ال 96 التي ادت الى مقتل عدد كبير من الجنود الاسرائيليين 16، خسرت اسرائيل انتفاضة الاقصى سياسياً ودولياً وعلى مستوى الرأي العام، لأنها وفي كل مرة تنسى انها تستطيع ان تقتل الكثير من الفلسطينيين، لكنها لن تكسر شوكة هذا الشعب ولن تنتزع منه بالقوة روحه واصراره على الحرية والحياة الكريمة. فللقوة حدود، ولمنطق اوسلو نهاية، ونهايته على ما يبدو جاءت على صورة قتل طفل فلسطيني. الصورة التي طغت على الحدث لكل حرب صورة. وشهدت الحروب الاخيرة صوراً تلفزيونية درامية حسمت الحرب النفسية من حولها وشكلت بداية نهايتها. في نيكاراغوا انتهى نظام سوموزا مع بث صورة لجندي يقتل صحافياً باطلاق الرصاص على رأسه من قرب وعلى طريقة الاعدام. وفي السالفادور شهدنا صور جثث الراهبات الثلاث على طرف مقبرة جماعية. وفي فيتنام كانت المرأة الفيتنامية تلهث عارية بعدما اصابتها قنابل النابالم الاميركية وصورة الطفل يركض والرصاصة تلاحقه لترديه قتيلاً. وهنا في فلسطين، جاءت صور الطفل محمد الدرة وابيه جمال الذي حاول ان يحميه من دون ان ينجح وأغمي عليه بعدما اصيب هو نفسه بثماني رصاصات، حينما قام قناص اسرائيلي باستهداف الطفل وارداه قتيلا. ومع ان مراسل التلفزيون الاسرائيلي حاول ان يشرح ملابسات الحادثة وان يضيف من عنده ومما حضّرت له استعلامات وزارة الحرب الاسرائيلية من معلومات خاطئة، الا انه فشل في تمييع أو تفسير هذه الفاشية التي لا تفسير او تبرير لها، خصوصاً ان الجيش الاسرائيلي اعترف ان الاوامر كانت واضحة لجنوده: "اطلق النار لتقتل" shoot to kill. وفي الولاياتالمتحدة، حاول من طرفه اهم معلق سياسي اميركي، جيم هوغلاند في صحيفة "واشنطن بوست" ان يبرر ما حدث، وحصل، على ما يبدو، على كل ما يلزم من مغالطات ودعاية صهيونية من اللوبي الاسرائيلي في واشنطن، وهي كثيرة، لكي يلوم الفلسطينيين على ما حدث للطفل ويحذر السياسيين من الوقوع في مطب التأثر بالصورة التي التقطها المصور الفلسطيني للقناة الثانية للتلفزيون الفرنسي. ونقل شارل اندرلا، المراسل المعتمد للقناة حديث المصور الفلسطيني طلال ابو رحمة على التلفون وقت التقاط الصور والطلب من اندرلا الاهتمام بعائلته في حال قتل هو نفسه، خصوصاً ان المنطقة المحاذية لمستوطنة "نتساريم" شهدت اشد المواجهات بين الفلسطينيين وقوات الجيش الاسرائيلي. وعلى رغم اهمية وقوة تأثير صورة الأب وابنه الشهيد، إلا ان الكاميرا لم تلتقط الخلفية السياسية للمواجهات في تلك المنطقة بالذات، وهي مستوطنة "نتساريم" التي كما قيل عالقة في حلق الفلسطينيين مثل شوكة السمك، بل سمكة القرش. وهذه المستوطنة، التي لا يسكن فيها اكثر من بضع عشرات المستوطنين بصورة دائمة وتحميها قوة من الجيش الاسرائيلي اكبر بكثير من سكانها، هي التي تبرز في المواجهات كالشاهد الاكيد على العجرفة الاسرائيلية التي ترفض ان تسحب بضع عشرات من المستوطنين المجانين بتطرفهم وتدينهم من اكثر مناطق العالم كثافة في السكان، الا وهي مركز قطاع غزة حيث يعيش مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في اكثر الظروف صعوبة. الا ان المستوطنة التي تحميها اتفاقات اوسلو وقوات الجيش الاسرائيلي وشهدت مواجهات عدة في الاشهر الاخيرة، هي التي تمتص من مصادر مياه القطاع الشحيحة اصلاً، وتستعملها للزراعة والترفيه عوضاً عن ان يستعملها الشعب الفلسطيني العطشان. ويذكر ان نسبة الاملاح في المياه الجوفية لغزة هي من أعلاها في العالم وتستعمل مع ذلك للشرب. لم تلتقط هذا وما اليه من الجنون الاحتلالي كاميرا ابو رحمة، الا ان الطفل الخائف والمختبئ وراء ابيه كان كفيلاً لأن ينقل بعينيه الخائفتين بل والمرتعبين كل ما هو ضروري لشرح معاناة هذا الشعب. ربما كان من الافضل لهوغلاند وغيره من المعلقين المتشاطرين ان يصمتوا للحظة وان يستمعوا للطفل الذي كان يحاول ان يقول لهم وللعالم أمراً ما. اسرائيل تعلن الحرب على مواطنيها انتشرت المواجهات بين المواطنين العرب العزل وقوات الامن الاسرائيلية في العشرات من القرى والمدن العربية في اسرائيل حال بدء الانتفاضة في القدس والاراضي المحتلة، وأدت الى سقوط عشرة قتلى على الاقل واصابة مئات الجرحى، بعضهم باصابات خطرة، الامر الذي يشكل سابقة مهمة في علاقة الاقلية العربية مع اسرائيل ومع الشعب الفلسطيني على الناحية المقابلة من الخط الاخضر. واعلنت لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في بداية الاسبوع الاضراب والحداد على الشهداء في مناطق ال48 وفي الاراضي الفلسطينيةالمحتلة، في الوقت الذي اشتدت فيه المواجهات في المدن المختلطة في عكا ويافا وحتى مدينة حيفا التي شهدت مواجهات حادة مع قوى الامن واغلاق طرق في المدينة. وأدت المواجهات في قرية الفريدس الى اغلاق الشارع الرئيسي بين تل ابيب وحيفا لساعات عدة شلت فيها حركة السير في وسط اسرائيل. هذا في الوقت الذي امر فيه قائد المنطقة الوسطى اخلاء قوات الامن من مدينة ام الفحم في بداية الاسبوع التي شهدت اشد المواجهات وقدمت العدد الاكبر من الشهداء. وعملياً قام الاسرائيليون بنشر قوات الجيش بصورة استفزازية في الجليل بحجة حماية اليهود لاستهداف اكبر عدد من الفلسطينيين. ولربما اهم ما يمكن ان يشار اليه في هذه المرحلة الاولى هو وحشية قوات الامن الاسرائيلية في التعامل مع المواطنين العرب الذين لم يقوموا بأكثر من التظاهر المدني ضد سياسة الحكومة واستفزازات اليمين. لم يتطلب انتشار انتفاضة ال48 اية تدخلات من القيادات الفلسطينية في الداخل او الخارج. وجاءت عفوية وطبيعية في ظل الاضطهاد الذي واجهته هذه الاقلية في السنوات الماضية وخصوصاً منذ تسلم ايهود باراك السلطة. الا ان المخابرات الاسرائيلية رأت ان تتهم حزب "التجمع الوطني الديموقراطي" في تقريرها الاربعاء الماضي، وسرب الى الصحافة الاسرائيلية، بأن مؤيديه كانوا وراء المواجهات في القرى والمدن العربية. واعتبر تقرير نشر في صحيفة "هآرتس" ان الاسلاميين لم يكونوا المحرك وراء المواجهات. الا ان الصحف الاسرائيلية استهدفت في تعليقاتها القيادات العربية في اسرائيل عموماً، في حين برأ مقربون من حزب العمل ارييل شارون وصبوا جام ادانتهم وانتقاداتهم على القيادات العربية. وتركزت التهم على "عدم المسؤولية" والتواطؤ مع اعمال العنف وقيادة المتظاهرين، في حين ألقت المؤسسة الحاكمة اللوم على اعضاء الكنيست العرب لتشجيعهم تظاهرات التضامن مع اخوتهم في الاراضي المحتلة ودفاعا عن رموزهم القومية والدينية. ومن ناحيتها، دانت القيادات العربية تصرفات الامن الاسرائيلي ووصفتها بأنها تصرفات نازية. وكان وزير الامن الداخلي الاسرائيلي وزير الخارجية بالوكالة شلومو بن عامي اجتمع الى بعض اعضاء الكنيست العرب، الا انه استمر في التحريض على الاقلية العربية، وهو الذي امر باطلاق الرصاص على المتظاهرين الفلسطينيين. وقام الوزير بن عامي، الذي يعتبره بعضهم من معسكر "الحمائم"، منذ تسلمه منصبه بالتعامل مع الاقلية الفلسطينية من فوهة البنادق، اذ شهدت السنة ونصف السنة الاخيرة رقماً قياسياً في اضطهاد قوى الامن الاسرائيلية المواطنين العرب الذين كلما تظاهروا من اجل حقوقهم المشروعة وضد مصادرة اراضيهم واجهتهم قوى الامن الاسرائيلية بالمزيد من العنف. وعندما حصلت الاستفزازات الاخيرة في باحة المسجد الاقصى تفجرت مشاعر السخط التي تراكمت في الشهور الاخيرة نتيجة تعامل قوى الامن، واثبتت الاقلية العربية مرة اخرى انها في ذات الخندق مع شعبها في المناطق المحتلة، وان الخط الاخضر لا يفصلها سياسياً ولا وطنياً عن شعبها الفلسطيني. واكدت الجماهير العربية انها وعلى رغم اختلاف المواقع، تكوّن جبهة مهمة واستراتيجية في مواجهة الاحتلال والبطش الاسرائيليين. وبيّنت الاقلية العربية ان الصراع ضد فاشية المؤسسة الحاكمة في اسرائيل، التي ذهبت ابعد بكثير من استفزازات شارون، لا يقتصر على المناطق المحتلة وانما ينبت من الهوية العربية الفلسطينية المشتركة ومن اسرائيل بالذات. ولربما هذا هو بالذات الذي اخاف القيادات الاسرائيلية التي سارعت لادانة تحركات الاقلية العربية في اصطفافها مع شعبها خلف الخط الأخضر. ولم تفشل القوات الاسرائيلية المدججة بالسلاح على مدى الايام الماضية في احتواء الغضب العارم بين الفلسطينيين في مناطق ال48 فحسب، بل أدت الى اشتداد المواجهات وتوسعها في كل المناطق. يبقى ان المستغرب في التطورات الاخيرة هو بالذات استغراب الاسرائيليين، خصوصاً في المؤسسة الحاكمة، ومفاجأتهم من ردة فعل الفلسطينيين في اسرائيل على انتهاك رموزهم القومية واستشهاد اخوتهم في الجهة المقابلة من الخط الاخضر. تحملت الاقلية العربية مسؤوليتها الثنائية، هويتها الفلسطينية والاسرائيلية، وقامت بدورها الطليعي هذه المرة في الوقوف الى جانب الاخوة في المناطق المحتلة.