تبدو قصة النجاح المبهر الذي حققه سابير باتيا في إطلاق شركة "هوت ميل" شيئاً من أساطير الماضي مقارنة بالوضع الراهن للاقتصاد الجديد وشركاته. حينها، كانت الثواني تنبض بالنجاحات المدوية والآفاق المتفتحة في استمرار. ماذا تبقى من الإبهار والدويّ؟ ربما ما يصلح لأن يكون قصة تُروى... بدا الجمع الصحافي الذي ملأ جنبات مقر "نادي الصحافة" في دبي، المجهّز بأحدث الوسائل والأدوات الإلكترونية في المعلوماتية والاتصال، مهتماً ومشغوفاً بالمحاضر الهندي - الأميركي سابير باتيا الوافد من "وادي السيليكون" الى دبي. مطلع الخريف الفائت، عرض باتيا قصة نشوء أشهر شركة للبريد الإلكتروني في العالم "هوت ميل" ونجاحها، وقد اسسها عام 1995 بالمشاركة مع مهندس الإلكترونيات جاك سميث. واستضاف "نادي الصحافة" باتيا في مقر يجمع بين الميل الخليجي الى الفخامة المستوحاة من التراث، وطرازات من الحداثة ظهرت في الأجهزة والأثاث والتوزيع الهندسي للمساحات، وكذلك في الإدارة والتوجه. قصة "هوت ميل" والبداية في بنغلور استعاد باتيا ما يشبه السيرة الذاتية، مبتدئاً من دراسته في "مدرسة القديس يوسف" الإرسالية في مدينة بنغلور - جنوبالهند. ومن اللافت أن يأتي باتيا من بنغلور التي صارت اليوم من مدن المعلوماتية Cyber cities المكوّنة لما يسمى "وادي السيليكون" الهندي. وحين أنهى المتفوق باتيا دراسته الثانوية في الإرسالية، لم تكن بنغلور لاقت صورتها الراهنة في العالم السبرنطيقي. هل خمّن الأب الهندي الصبور أن ابنه سيستضيف ملايين الناس من كل العالم، بالأسماء والرسائل والبطاقات والصور وأشرطة "مالتي ميديا"، في عنوان ذائع في الأرض: @ hot mail؟ ولم ينقطع الأب عن متابعة تفوق ابنه في الجامعات الأعلى شأناً في الولاياتالمتحدة، مثل "كاليفورنيا للتكنولوجيا" و"ستانفورد". وبدا باتيا الابن غير قادر على نسيان سُهد أبيه، في ليلة "بيضاء" متوجسة، حين نقل صاحب "هوت ميل" إلى الأب نبأ عزم "مايكروسوفت" شراء شركة البريد الإلكتروني في مقابل 350 مليون دولار. استوثق الاب الابن من الرقم اكثر من مرة، ولما عاود باتيا الاتصال ببنغلور في اليوم التالي، اكتشف أن أباه لم يغمض له جفن. سهداً بملايين "مايكروسوفت"! ولعل عينيه اخضلتا بالفخر الأبوي الإنساني بأن سعيه الدؤوب، سحابة عمره وعرقه، أتى ثماره. ففي عام 1994 أطلق جاك باركنسديل أول برنامج إبحار على الإنترنت "نيت سكايب" ولاقى نجاحاً مذهلاً. وفي مطلع العام التالي، صمّ سمع العالم نجاح طالبين في ستانفورد كلها، جيري يانغ ودافيد فيلو، في تأسيس شركة "ياهوو" للعمل على الإنترنت، واندرجت قصتهما في أساطير الاقتصاد الجديد. في تلك المناخات، تبادل باتيا وسميث أفكاراً وبرامج بهدف تصميم برنامج آخر للإبحار على الإنترنت. وتبادل الصديقان أفكارهما بواسطة "مجموعات الأخبار" News group، وهي قوائم أسماء مصنّفة بحسب الميول والاهتمامات ومرفقة بالمقالات والمواد التي يضعها صاحب كل اسم. وبرز عائق أمام تبادل الأفكار إذ عمل باتيا وسميث في شركتين مختلفتين منعت كل منهما موظفيها من استخدام "مجموعات الأخبار"، وفكر الصديقان في طريقة جديدة لتبادل الأفكار هي البريد الإلكتروني. ولاحظ باتيا أن لغة HTML، "النص العالي الترابط" هي التي أدت الى تشكيل الإنترنت على هيئتها القائمة اليوم، فلم لا يعمل البريد الإلكتروني وفق هذه اللغة؟ وهكذا ترك الصديقان عملهما ليصوغا "هوت ميل": أول شركة للبريد الإلكتروني تعمل على لغة HTML. القصة المتكررة: الإبداع واحتكار الشركات لطالما لاحظ رالف نادر، المرشح السابق الى الرئاسة الأميركية من أصل لبناني أن الشركات العملاقة تلجأ الى احتكار الإبداع. وفي أقل من عام، اجتذب "هوت ميل" خمسة ملايين مشترك، وعند منتصف العام التالي تضاعف العدد. وتنبهت مايكروسوفت الى نجاح "هوتميل"، وإلى ميله سريعاً نحو التحول برنامج إبحار على الإنترنت، في وقت كان "اكسبلورر" وبريدها الإلكتروني MS Mail يلاقيان صعوبات جمّة. وبيّن باتيا أن استمرار "هوت ميل" كان ليؤدي الى تحطم "إكسبلورر" و"أم أس ميل"، وخصوصاً مع منافسة "نيت سكايب" و"ياهوو". ولجأت مايكروسوفت الى الأسلوب المعهود لدى الشركات العملاقة، فاشترت "هوت ميل" ودمجته ببرامجها. ويستضيف بريد "باتيا" اليوم نحو مئة وعشرين مليون مشترك، ويعد من أقوى أسلحة "مايكروسوفت". وفي حين تراقب الأعين الوجلة هبوط مؤشر "نازداك"، وهو السوق الإلكترونية لشركات المعلوماتية التي عبّرت طويلاً عن صعود الاقتصاد الجديد وقوته، وتلوك ألسنة المحللين الاقتصاديين توقعات متفاوتة حيال مسار تموضع الاقتصاد الرقمي في البنى الاقتصادية الكلّية، يظهر باتيا كأنه وافد من زمن أسطوري يتقادم في اطراد.