عملياً، لم تتغير أفكار كامب ديفيد ولم تتحسن. كل ما يجري هو إعادة صياغتها واخراجها كأنها أطروحات جديدة انتجتها "المرونة" الاسرائيلية. ولا يزال الدور الأميركي محدوداً بما تطرحه اسرائيل من دون أي تدخل أو اضافة. حتى اللحظة لم يظهر الاسرائيليون ولا الأميركيون انهم استوعبوا دروس الأسابيع الأخيرة. فالمفاوضات تدور كأن شيئاً لم يكن، وكأن المفاوضين استأنفوا العمل بعد استراحة متفق عليها. إذ لو بات الاسرائيليون مستعدين للاعتراف علناً بما يعرفونه ضمناً لجاؤوا الى هذا التفاوض "المستعجل" باقتراحات تسهّل انجاز اتفاق، بدل معاودة اغراق النقاش في جدالات عقيمة. أما الأميركيون فمن الواضح انهم لا يزالون يرفضون الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبوها، وبالتالي فإنهم غير مؤهلين لحل مشكلة باتت "مشكلة اميركية" بكل معنى الكلمة. مجدداً يرتسم خيار فرض اتفاق على الفلسطينيين، رغم ان ظروفاً وحقائق كثيرة تغيّرت. فالكلام عن اتفاق نهائي وليس عن ترتيبات مرحلية. والاسرائيلي يريد اتفاقاً ينهي الصراع، لكن نهاية الصراع تتطلب اتفاقاً تاريخياً، ولا أحد يتخيّل أن ما يُناقش حالياً يمكن أن يكون هذا الاتفاق التاريخي المنشود. والمطروح هو مجرد مشروع تسوية وليس حلاً نهائياً. قام الاسرائيليون بحملة دعاية اعلامية ملفتة، محورها انهم "يتنازلون" عن السيادة على الحرم القدسي. كان يمكن هذا "التنازل" ان يكون تضحية كبيرة من أجل السلام، لولا انه خدعة أخرى. فهذه السيادة لا تزال مشكلة، لأن الاسرائيليين يعرضون "سيادة" جوفاء. فهم لا يزالون يتحدثون عن سيادة على السطح وسيادة تحت الأرض، الأولى للفلسطينيين والثانية لهم. بل ان شلومو بن عامي يظهر كرماً استثنائياً باعطاء "ممر" للمصلين الى المسجد الأقصى، لكنه يطالب لليهود ب"حق" الصلاة في الحرم، ويتحدث عن ضرورة احترام الفلسطينيين ل"ارتباط" اليهود ب"جبل الهيكل"... أي ان الاسرائيلي يريد في الاتفاق النهائي اعترافاً فلسطينياً بإمكان حلول هيكل سليمان، يوم تتوصل اليه الحفريات، محل الحرم القدسي. وعندئذ لا بد ان تنتقل السيادة تلقائياً الى اسرائيل. لاحظوا ان مثل هذه الأفكار تطرح تحت سقف الاعتراف بنهاية الصراع، التي يعتبرها الاسرائيليون نهاية لمطالب الفلسطينيين. أما مطالب الاسرائيليين أنفسهم فمن الواضح ان لا اعتراف بنهاية لها. وفي ذلك تأكيد ملموس بأن مفهوم التفاوض الاسرائيلي لم يتغير، ولا تزال تعوزه قوة المنطق بعدما تعذّر عليه فرض منطق القوة. فبين هذا وتلك يتمترس في محاولاته الدؤوبة لتمرير الخدعة تلو الخدعة. كيف؟ بمنطق المقايضة. القدس مقابل اللاجئين، أرض المستوطنات مقابل أرض جرداء تزرع فيها النفايات السامة والنووية. وعلى قاعدة انهاء الصراع، أيضاً، يقول داني ياتوم ان اسرائيل سترفض ان تتحمل المسؤولية المعنوية أو القضائية لمشكلة اللاجئين. لا بد أن هؤلاء الفلسطينيين فضلوا فجأة ان يهجروا بلداتهم وقراهم ومنازلهم ليعيشوا لاجئين في مختلف أصقاع الأرض. ولعل هذا يساوي، بالمنطق نفسه، ان عسكر المانيا النازية تعهدوا أمن يهود أوروبا لكن هؤلاء قرروا بملء ارادتهم الذهاب الى "المحرقة". من يتحمل مسؤولية تشريد اللاجئين إذاً؟ كانوا في موطنهم وهوجموا في بيوتهم، طردهم الاسرائيليون ليحتلوا الأرض، وسجلت القرارات الدولية هذه الواقعة قانونياً، فهل يعتقد المستر كلينتون أن حلفاءه محقون في رفض هذه المسؤولية أم ان تماديهم في الاجرام تركه أصماً وأبكماً؟ يعرف كلينتون كما يعرف باراك ان لإنهاء الصراع متطلبات محددة لا يمكن الغش فيها. وها هما في لحظة حرجة تحتاج الى كل ما لديهما من شجاعة. فأي "اتفاق" لا يحترم تلك المتطلبات، الوطنية والدينية والانسانية، سيعني تجميداً للصراع وسيشحذ لعنة التاريخ لهما. لم تكن الانتفاضة سوى تجربة تسببت بها اخطاء قمة الصيف في كامب ديفيد، فلا داعي لتكرار الأخطاء.