لعل "الأمثولة" الثقافية اللبنانية التي يمكن استخلاصها عشية انصرام السنة 2000 تكمن في تلك "الحرب" الباردة التي تدور حول مفهوم "الحرية" بين بعض المراجع الأمنية وبعض المراجع السياسية. فالمدير العام للأمن العام الذي يتولى مبدئياً ملف الرقابة والحريات لم يتوان عن التنديد بحصانة الكاتب والشاعر والمحامي... ان حاول هؤلاء جعل "الحصانات" متاريس تحول دون تطبيق القانون. هذا التنديد أطلقه المدير العام خلال تدشينه سجناً جديداً عشية نهاية عام وقرن معاً. كانت القضبان الحديد وراءه تعيد الى الذاكرة قضية "السجن" الأليمة على رغم الأضواء الباهرة و"الديكور" الجميل. وكان بعض اللبنانيين يحتفون للتوّ بإغلاق سجن المزّة واخراج موقوفيهم والبعض الآخر يتظاهرون متسائلين عن موقوفيهم الذين لم يكونوا بين الذين أطلقوا... طبعاً ليس هذا المشهد ملائماً لنهاية سنة وبداية أخرى. لكنه المشهد الوحيد الحقيقي جداً والواقعي جداً في هذا الوطن الذي تندمج فيه السياسة والثقافة الخرافة والحقيقة، المأساة والمرح، الحزن والسعادة خير اندماج... وما دام مدير الأمن العام يتحدث عن الشاعر والكاتب وسواهما من أهل "الحرية" فإن العمل الثقافي في مفهومه الواسع إعلاماً وصحافة وأدباً ومسرحاً وسينما سيظلّ محط انظار جهاز الرقابة و"الشغل" الذي سيشغل القائمين عليها. يرتسم هذا المشهد في مرحلة شعر المثقفون خلالها ببعض الأمل في نهوض وزارة الثقافة عبر حلول المفكر السياسي غسان سلامة على رأسها. فالوزارة هذه كانت ولا تزال حتى الآن مجرد وزارة اسمية وكان وزير الثقافة مجرد وزير دولة، وزيراً بلا حقيبة ولا موازنة ولا هالة ثقافية... وقد يكون غسان سلامة أول وزير يستحق هذا المنصب فعلاً أو أول وزير يستحقه المنصب نفسه. فالذين سبقوه كانوا مجرد "مستوزرين" في وزارة لا علاقة لهم بها ولا بهمومها التي هي هموم أهل الثقافة على اختلاف مشاربهم. وإن بدا سلامة يملك رؤية ثقافية واضحة ومبادئ ومشاريع فهي كلها ما زالت "نظرية" أو "مبدئية" وينبغي الانتظار فترة وفترة طويلة ربما، من أجل أن تطبق أو "تترجم" عملياً. وينبغي انتظار نهاية القمة الفرنكوفونية المزمع عقدها في الصيف المقبل حتى يتسنى للوزير أن ينصرف الى "تأسيس" وزارة الثقافة، هذه الوزارة الغائبة أو غير الموجودة والتي غالباً ما كانت تُحصر بوزير يرعى ما "هب ودب" من نشاطات ويمنح بعض المساعدات على طريقة المؤسسات الخيرية. ويصعب الآن توجيه أي سؤال الى وزير الثقافة ما دام مولجاً بملف "القمة الفرنكوفونية" وهو ملف يتطلب الكثير من الجهد والمثابرة. إلا أن الحركة الثقافية في لبنان لم تكن تحتاج في يوم ما الى رعاية رسمية من وزارة للثقافة ولا الى دعم رسمي. وربما هنا تكمن فرادتها. فالقطاع الثقافي هو قطاع خاص عموماً تتوازى فيه جهود الأفراد والمؤسسات "الصغيرة" وتنصهر كلها بغية "إبداع" ثقافة حرة، غير موجهة وغير "مقننة"، متناقضة ومختلفة... ولعل جو الحرية هذا هو الذي جعل بيروت في الماضي كما في الحاضر عاصمة منفتحة على كل الثقافات والتجارب. يصعب اختصار سنة من عمر بيروت مدينة الثقافة الدائمة فهي كمثل خلية نحل تعجّ عجاً بالنشاطات التي لا تحصى: أربعة معارض للكتاب، مسرحيات، معارض تشكيلية، كتب تصدر بالمئات، حفلات وندوات ومحاضرات ومهرجانات... وفي أحيان تفتقد بعض النشاطات الى الجمهور حتى لتبدو كأنها مجرّد نشاطات قادرة على ان تقوم من دون جمهورها. ترى ما الذي يجعل مدينة مثل بيروت صاخبة مثل هذا الصخب الثقافي الذي تختلط فيه الأصوات والأصداء؟ ما الذي يجعل مدينة مثل بيروت قادرة على احتواء هذا المقدار من "الانتاج" الثقافي الذي "تتعايش" فيه الأعمال الجيدة والجادة والأعمال العادية وربما الرديئة؟ غريبة هذه المدينة حقاً: مدينة مزدوجة تمام الازدواج. حياتها الليلية الصاخبة بالسهر والأضواء والفخامة المخملية هي غير حياتها النهارية المملوءة بالتعب والهموم والعبث والثقافة... قبل أعوام قليلة راحت "بيروت الليل" تزدهر، بيروت المطاعم والنوادي. حينذاك قال البعض ان وجه بيروت الثقافي بدأ يطغى عليه قناع الازدهار المفتعل والمزيّف. لكن هذا الوجه لم يلبث أن ظهر من غير أن تخلع بيروت ذلك القناع نهائياً. صحيح ان الصخب الثقافي الذي لا يهدأ في بيروت هو في جزء غير قليل منه صخب خاوٍ وفارغ لكن بعضاً منه هو صخب حقيقي جداً. إنها طبيعة بيروت نفسها كمدينة لا تستطيع ان تصمت أو تهادن أو تنام. مدينة تظل تبحث عن ذاتها وعن صورة لها يصعب عليها أن تقول انها وجدتها أو ستجدها ذات يوم. أصبحت مدينة بيروت تمثل "نموذجاً" ثقافياً أو "مثالاً" أو "حالاً" ثقافية تتكرر في المدن والمناطق، في المواسم الثقافية وغير الثقافية. فمهرجانات مثل مهرجانات بعلبك أو بيت الدين ليست سوى ترسيخ للحال الثقافية التي جسدتها بيروت: الثقافة والمتعة تنصهران في لحظة واحدة، المحلية والعالمية، بعض الأصالة وبعض الادعاء... قد يصعب حقاً استعراض ما "حدث" أو "حصل" خلال عام في مدينة، حقيقية وخرافية مثل بيروت، في مدينة يستطيع فيها أي كان أن يصل أياً يكن "الوصول". لكن بيروت لا تنسى يوم الحساب حتى وإن تأخرت عن إعلانه. فهذه المدينة تُضمر عكس ما تُظهر وخلف انفتاحها وتسامحها وتهاونها يكمن ما تمكن تسميته بالرصانة والجدية والصراحة. ماذا شهدت بيروت خلال سنة هي السنة 2000، سنة الانتقال من قرن الى آخر بل من عصر الى عصر؟ قد يحتمل مثل السؤال في بيروت صيغاً أخرى! كأن نسأل: أين أصبح الشعر في مدينة بيروت التي كانت وما زالت احدى عواصم الحداثة العربية؟ أين أصبح المسرح في المدينة التي كانت وما زالت أحد المختبرات العربية؟ أين أصبح الفن التشكيلي؟ أين أصبحت الرواية والترجمة والنقد...؟ لعل الطابع "الشبابي" هو الغالب الآن على معظم الحقول الابداعية وخصوصاً الشعر والمسرح والفن التشكيلي. هذا انطباع سريع لكنه حقيقي فعلاً. أحدث الكتب الشعرية ترجع في معظمها الى أحدث الأجيال الشعرية جيل الألفين ربما. وشعراء هذا الجيل قد لا يختلفون كثيراً عن الجيل الذي سبقهم لتوّه وهو جيل برز شعراؤه في "نهايات" الحرب اللبنانية. قد لا يختلفون في همومهم اليومية ونزعتهم الى كتابة قصيدة تحتفي بالحياة والواقع أكثر مما تهتم بالشؤون الأخرى، الشعرية واللغوية والفلسفية أو الميتافيزيقية. اسماء عدة بعضها يطل للمرة الأولى واصلت البحث عن معادل يومي وواقعي وفانتازي للصنيع الشعري. هكذا قرأنا للشعراء: فادي الطفيلي وفادي العبدالله وسامر أبو هواش وجمانة سلّوم حداد وأيمن الأمين وسواهم... يوسف بزّي الذي ينتمي الى الجيل الأسبق سعى الى اصدار مجلة شعرية - تشكيلية عنوانها "داتا" والغاية كما تبدّت محاولة البحث عن مرحلة ما بعد - حداثية ولكن طبعاً من دون الدخول في الحقل النظري أو النقدي. ولم يصدر يوسف بزّي سوى عدد يتيم من مجلته، عدد لم يكن قادراً على الافصاح عن هويتها أو عن مشروعها. كذلك قرأنا مجموعات شعرية لاسماعيل فقيه وعناية جابر. اسكندر حبش أصدر كتاباً نثرياً باللغة الفرنسية. انطوان أبو زيد الذي لا ينتمي الى جيل محدد حضر بدوره عبر ديوان جديد عنوانه "لتخدمك عيناك الجميلتان في الهوّة". أما بلال خبيز فأصدر قصيدة طويلة ضمن بطاقات بريدية كارت بوستال حملت كلّها لوحة تجريدية واحدة. وصدرت مجموعة البطاقات في اطار "مهرجان" شارع الحمراء الذي تحييه مؤسسة "أشكال وألوان" وهو مهرجان يدّعي الحداثة وما بعد الحداثة عبر انفتاحه على أنواع فنية عدة أو عبر الدمج بينها أو عبر اعتماد صيغ يظنها جديدة وهي باتت من ارث الماضي "القريب" في الغرب. وان استثنينا الشاعر عباس بيضون الذي أصدر ديوانه "لفظ في البرد" فإن جيل السبعينات لم يحضر هذه السنة من خلال الدواوين الشعرية على رغم حضور أبرز روّاده نقدياً أو صحافياً عبر مقالاتهم واطلالاتهم المختلفة. وقد آثر شعراء من مثل محمد العبدالله وعيسى مخلوف وانطوان الدويهي ووديع سعادة أن يطلّوا عبر كتب نثرية تضمّ نصوصاً مفتوحة على الشعر والتأمّل ولا يخلو بعضها من مقالات ذات طابع ابداعيّ. بعض شعراء مجلّة حضروا من خلال نثرهم الجديد أيضاً أو ترجماتهم ومنهم شوقي أبي شقرا في كتابه "سائق الأمس ينزل من العربة" وفؤاد رفقه في كتابه "بيدر" وعصام محفوظ عبر عدد من الكتب، وأبرزها كتابه "رامبو بالأحمر". أما أدونيس التي احتفت به باريس أخيراً فصدرت له طبعة جديدة من ترجمته لأعمال جورج شحادة المسرحية تصدر تباعاً علاوة على الحوار الذي أجراه معه صقر أبو فخر وصدر في كتاب مستقل. أما الشاعر أنسي فكانت اطلالته هذا العام "سجالية" خصوصاً عبر الضجة التي أحدثها "نشيد الأناشيد" حين قدمت منه مقاطع في مهرجانات بعلبك من تلحين زاد ملتقى وأداء فاديا الحاج. والمقاطع استلّت من الصيغة التي كان أنجزها الحاج في الستينات. وقد أعيد طبعها وعرفت رواجاً تبعاً للحملة التي قام بها بعض السياسيين وهي انتهت لمصلحة النشيد وليس لمصلحتهم. والسجال الآخر الذي أذكاه أنسي الحاج كان حول حرية التعبير إذ خضع للاستجواب في صفته رئيساً لتحرير جريدة "النهار" والذريعة نشر مقالة تمس قضية الوجود السوري في لبنان. وإن بدت الرواية تزاحم الشعر في المعترك اللبناني جاذبة مزيداً من الأقلام والشعراء، فهي تظلّ مقصّرة عن مزاحمة الشعر وخصوصاً في عدد الشعراء. ربيع جابر أصدر هذا العام روايته "يوسف الانكليزي" ورشيد الضيف رواية جديدة في عنوان طريف هو "تصطفل ميريل ستريب". وأصدرت إيمان حميدان يونس روايتها الثانية "توت برّي"... وبعض الروائيين ما برحوا يترجمون الى لغات أجنبية وقد تُرجمت أخيراً رواية حسن داود "بناية ماتيلد" الى الألمانية. وأصدر القاصّ جورج الشامي مجموعة قصصية جديدة واصل فيها تجربته المميزة في القصة اللبنانية. أما هدى بركات ففازت بجائزة نجيب محفوظ في القاهرة مخترقة مدينة الرواية العربية بصوتها الخاص والجريء. غير أن رواج الأدب الحديث لم يحل دون رواج بعض الأسماء النهضوية: أمين الريحاني حضر بشدّة من خلال مخطوطات له صدرت للمرة الأولى وكذلك من خلال بعض الأبحاث التي تناولته. وحضر بشدة الأديب فؤاد سليمان الذي صدرت أعماله الكاملة متضمنة أربعة كتب تنشر للمرة الأولى. وإن بدت "المطابع" اللبنانية على حركة شبه دائمة فهذا لا يعني أن حركة النشر والقراءة مزدهرتان. وتكفي العودة الى معرض الكتاب العربي الذي كان هذا العام على قدْرٍ من "التعاسة" سواء عبر تعثر برامجه المرافقة أم عبر انحسار الجمهور وحركة الشراء. والطريف هو التنافس بين معرض الكتاب العربي ومعرض الكتاب الفرنسي اللذين أقيما في التاريخ نفسه. وبدا كل منهما مختلفاً عن الآخر جمهوراً وثقافة وهوية. وكان هذا التنافس دليلاً على انقسام بيروت على نفسها ثقافياً واجتماعياً وربما سياسياً. أما الفنانون الذين ينتمون الى الجيل الجديد فغزوا بدورهم عالم المسرح والفن التشكيلي في حين غاب معظم الرواد أو الفنانين الذين أعقبوهم. وحدها نضال الأشقر من جيل الرواد حضرت حضوراً اخراجياً بارزاً من خلال مسرحية "ثلاث نسوان طوال" نص الأميركي ادوار ألبي وشاركت في الأداء رنده الأسمر وكارمن لبّس. وباشرت نضال الأشقر تقديم مسرحيتها الجديدة "منمنمات تاريخية" نص سعدالله ونّوس وهي تنتمي الى العام المقبل أكثر مما تنتمي الى العام 2000. وقدّم جلال خوري كذلك عملاً مسرحياً غنائياً عن الراهبة هندية. أما الأعمال الشابة فكانت كثيرة وفي طليعتها عرض "اخراج قيد عائلي" للمخرجة لينا صانع. والنص مقتبس عن مسرحية الكاتب الفرنسي برنار ماري كولتس "العودة الى الصحراء". وبدت المسرحية فريدة في جوّها ولغتها المشهدية وبناء شخصياتها. وقدمت المخرجة لينا أبيض نصاً مونودرامياً للكاتب الايطالي داريو فو وقامت ببطولته الممثلة القديرة جوليا قصّار. أما المعارض التشكيلية فلا تحصى حقاً نظراً الى الحركة التي تشهدها الغاليريات والمراكز الثقافية والنوادي. وإن حاولنا أن نتذكر بعض الرسامين الذين أقاموا معارض فتردنا أسماء من مثل: حسين ماضي، محمد الرواس، غريتا نوفل، سمر مغربل، جوزف حرب، يوسف عون وسواهم وسواهم... أما الفيلم الذي كان من المنتظر أن يكون حدثاً سينمائياً فهو فيلم "طيف المدينة" للمخرج جان شمعون. لكنه لم يستطع أن يكون ذلك الحدث المنتظر على رغم انه الفيلم الروائي الأول الذي ينجزه هذا المخرج الطليعي وهو كان أمضى ردحاً يعمل في السينما الوثائقية محققاً أفلاماً مهمة في هذا النوع. يستعيد المخرج في فيلمه متاهة الحرب اللبنانية لكنه عوض أن يخرج منها ببعض اللحظات السينمائية الجميلة وقع في مزالقها. فإذا المشاهد واللقطات التي كان من المفترض ان تنبثق من جحيم الحرب وواقعها المأسوي تغدو واهية و"مزيفة" ومثيرة للسخرية في أحيان من شدة سذاجتها أو فطريتها. والسؤال الذي غالباً ما تطرحه "أفلام" الحرب اللبنانية هو: لماذا كلما انتقلت الحرب اللبنانية الى الشاشة الكبيرة غدت كأنها حرب غريبة أو حرب غير حقيقية، حرب مشوهة وبلهاء ومضحكة؟ سنة من عمر بيروت الثقافة هل يمكن اختصارها حقاً؟ هل يمكن اختصار حياة لا تتوقف وحركة لا تعرف الجمود! كل ذلك على رغم الأصداء التي تعلو على الأصوات أحياناً واختلاط الأسود بالأبيض وفقدان المقاييس التي تفصل بين الحقيقي والمزيف، بين الأصيل والعابر.