لا يتورع الطفلان محمد سويد 9 أعوام وشقيقه علي 5 أعوام عن دخول حقل مزروع بعشرات الألغام في قريتهما دبين الجنوبية، ولم تكن مضت ساعات على خروج أحدهما من المستشفى، وأيام على خروج الثاني منه، بعدما عولجا من جروح في جسديهما من جراء اصابتهما بشظايا لغم انفجر قبل أيام في الحقل نفسه. تحقيق عن الالغام في جنوبلبنان ص 8 من يعرف حكاية محمد وعلي مع الألغام لا يمكن إلا أن يسأل بدهشة كيف بقيا على قيد الحياة حتى الساعة. وليست الاصابة أخيراً نهاية الحكاية كما يأمل أهلهما ومن يعرفهما، خصوصاً ان شهرتهما تجاوزت قرى الجنوب. ويكاد يطلق عليهما لقب "الخبيرين" في ازالة الألغام. قبل الانسحاب الإسرائيلي من جنوبلبنان بشهور قليلة عرضت محطة تلفزيونية حرمون، مقرها في حاصبيا المحتلة في حينه، برنامجاً اسرائيلياً عن زرع الألغام وتفكيكها. وكان محمد الذي لم يبلغ التاسعة، من المشاهدين المواظبين له للتعرف الى "هذا الشيء" الذي يسمع عنه من أهله والجيران ولا يراه، على رغم أنه يحاصر منزله الواقع على الأطراف الشمالية لدبين. لم يكتف محمد بالمشاهدة بل سعى الى مغامرة لا يعرف من في سنّه عواقبها. فذهب مع شقيقه علي وأولاد شقيقه الأكبر عدد الأخوة 14 الى الحقل المزروع الغاماً خلف المنزل، وباشر تطبيق ما رآه. قال "بدأت أحفر حول اللغم الظاهر فوق التربة كما كان يفعل الجنود الإسرائيليون في الفيلم، ثم أحضرت سلكاً طويلاً ولكزت اللغم وحملته الى سطح منزل قريب من منزلنا هجره أصحابه الى بيروت". كانت عملية نزع الألغام لعبة مسلية للأطفال الذين تعاونوا على حمل 37 لغماً الى سطح البيت، من دون ان يدرك أحد من الكبار ما يفعلونه، على اعتبار انهم يلعبون، علماً بأن نوافذ البيت، الذي كانت الأم منهمكة في تدبير أحواله وأحوال طفلها الرضيع، تطل مباشرة على الحقل الملغّم. ولكن كما قالت "أم محمد": "لم يخطر ببالي أن يجرؤ الأولاد على فعل ما فعلوه، كانت مفاجأة كبيرة لي ولوالدهم حين اكتشف أحد الأقارب الألغام على سطح منزل جيراننا وعلمنا بما حصل". بدا محمد الذي لفت الضمادات خاصرته ويده اليسرى ورأسه وغطت الجروح وجهه فكادت تخفي زرقة عينيه، واثقاً بما كان يفعل: "لم أكن أخاف اللغم لأنه يحتاج الى ثقل لكي ينفجر". وهو يشرح تفاصيل الآلية التي يعمل بها كأنه على معرفة تامة بمحتوياته. ولكن مذ اكتشف الكبار فعلته وقام عناصر من "جيش لبنانالجنوبي" الموالي لإسرائيل بتفجير الألغام وتعرضه وشقيقه وأولاد شقيقه لعقاب قاسٍ من والده، لم يعِد الكرة. إلا أن حكايته حولته "بطلاً في نظر رفاقه، واستقطب اهتمام كثيرين، بينهم هيئات انسانية محلية ودولية تعمل منذ الانسحاب الإسرائيلي، وبالتعاون مع الجيش اللبناني، على نشر التوعية بين أهالي "الشريط" المحرر عن مخاطر الألغام. بلغت شهرة محمد وعلي مسامع الشاب محمد حجازي 25 عاماً من قرية مجاورة لدبين. دفعته حشريته، على ما بدا لاحقاً، الى التوجه الى منزل الطفلين، مدعياً انه من "حزب الله"، وطلب من علي الذي كان يلعب في فناء البيت ارشاده الى حقل الألغام للتبليغ عنه الى الجيش اللبناني. دخلا معاً الحقل الذي تكسرت أسلاك شائكة تسيجه بفعل عوامل الزمن، وكان زرعه عناصر الرائد سعد حداد عام 1985. طلب حجازي من علي أن يفك لغماً أمامه خصوصاً ان بعض الألغام ظاهر فوق الأرض بسبب انجراف التربة. ثم راح حجازي يقوم بالعمل وحده، فيما سارع محمد الذي كان يلعب على الدراجة الى الحقل لرؤية ما يحصل. قال: "حين اقتربت رأيت حجازي يدوس لغماً فنبهته الى الأمر لكنه لم يصدقني. قلت له: لا تتحرك سآتي بحجر لأضعه مكان قدمك. وحين لم يقتنع، وقال انه سيقفز ولن يصاب بأذى، سحبت شقيقي ورميته على الأرض وانبطحت فوقه، لعلمي ان اللغم سينفجر. وبالفعل شاهدنا حجازي لحظة الانفجار كيف كانت تتقطع رجلاه". لم يمت حجازيالشاب انما بترت رجلاه، ولا تزال القرية تعيش ذهول الحادث باستثناء محمد الذي يراقب عناصر الجيش اللبناني، وقد حضروا عقب الحادث وبدأوا بتحديد الحقل وتسييجه والعمل على نزع الألغام منه، ويعبر عن غضبه من منعهم له من دخوله ثانية، مهدداً همساً بأنه سينزع ألغاماً ويرمي بها من يغضبه! قد تكون حكاية محمد نموذجاً ناقصاً لما هي الحال في القرى الجنوبية الحدودية التي على رغم انتهاء الاحتلال الإسرائيلي لها منذ ستة شهور لا تزال تعيش تبعاته. وقد بلغ مجموع ضحايا انفجار الألغام التي خلفها في شكل أساسي الجيش الإسرائيلي و"الجنوبي"، حتى السادس من كانون الأول ديسمبر الجاري بحسب احصاء وحدة تعزيز الوقاية من مخاطر الألغام في لبنان التابع لكلية الصحة في جامعة البلمند، 83 ضحية: 10 قتلى و73 لا يزالون على قيد الحياة، وبعضهم بترت أطرافه، ومعظم هذه الحالات كان سببها الاهمال.