اعترف رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك بتقديمه استقالته امس الى رئيس الدولة موشيه كتساف بأنه لا يريد، أو لا يستطيع، التوصل الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين قبل رحيل الرئيس الاميركي بيل كلينتون من البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني يناير المقبل. ومع ان هدف باراك من وراء هذه الاستقالة جاء عارياً مكشوفاً، وهو انه أراد بها ان يحرم من الترشح ضده سلفه الليكودي في المنصب بنيامين نتانياهو، فإن التعقيدات والاحتمالات الكثيرة التي أثارها على صعيد النظام الانتخابي الاسرائيلي ليست ما ينبغي ان يشغل اهتمام العرب، خصوصاً الفلسطينيين في الوقت الحاضر. ذلك ان لا داعي للاسف على رئيس وزراء ادعى انه خلف اسحق رابين في المسيرة السلمية، لكنه أثبت انه قيد مسيرة السلام بسلاسل لاءاته وخطوطه الحمر وسمح للاستيطان بالاستفحال في الأراضي الفلسطينية بوتيرة اسرع من تلك التي سادت حتى في عهد نتانياهو. كانت الصورة التي سادت الى حين اعلان باراك استقالته هي ان انتخابات ستجرى في اسرائيل لمنصب رئيس الوزراء ولكنيست جديدة في آن معاً. وفي ظل ذلك الاحتمال بذل باراك محاولتين لتعزيز فرص فوزه. كانت الأولى اعلانه امام رؤساء تحرير الصحف الاسرائيلية قبل نحو اسبوعين خطة سلام بائسة اقترح فيها إرجاء قضيتي القدس واللاجئين، والثانية السعي الى التقرب الى الأقلية العربية في اسرائيل أملاً بالحصول على دعمها كما كانت الحال في انتخابات ايار مايو 1999 عندما صوت له 95 في المئة من الناخبين العرب. لكن باراك فشل في محاولتيه، اذ رفض الفلسطينيون على الفور خطته السلمية التي كانت شبيهة بما عرضه في قمة كامب ديفيد الثانية، ورفض العرب في اسرائيل اظهار دعمهم له بعدما سمح لقوات أمنه بقتل 13 منهم في تشرين الأول اكتوبر الماضي، عندما تظاهروا تعاطفاً مع انتفاضة اخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة ضد الاحتلال الاسرائيلي. ان من يأتي الى منصب رئيس الوزراء الاسرائيلي بعد نحو شهرين من الآن، سواء كان باراك أو غيره، لن يستطيع الهرب من آثار الانتفاضة الشعبية والمواجهات الدموية التي تسبب باراك في اشعالها، بعد كل مواقفه المتعنتة في قمة كامب ديفيد الثانية، بسماحه لزعيم ليكود ارييل شارون بتدنيس الحرم القدسي. وإزاء البطش الذي سمح باراك لجيشه بأن يمارسه ضد اطفال الحجارة تجذرت الانتفاضة واستقرت على هدفين من الصعب ان تحيد عنهما أو تتوقف دون بلوغهما، هما التحرر من الاحتلال الاسرائيلي والاستقلال. وثمة نقاش واسع الآن على الصعيد الشعبي الفلسطيني، لا بشأن هدفي الانتفاضة، فهما واضحان، وانما بخصوص تطويرها وتقنين اساليبها وتوحيد قيادتها وتفصيل برامجها وتحويلها الى حرب استنزاف موجعة تحرم اسرائيل من ان يكون احتلالها للاراضي الفلسطينية، عسكرياً واستيطاناً، احتلالاً مجانياً أو حتى رخيص الكلفة. وقد اثبتت تجارب تاريخية، منها حرب فيتنام، ان في وسع الشعوب الصمود امام القدرات العسكرية العاتية والمتفوقة للخصم وتطوير اساليب لإيجاعها وحملها على التفاوض على تسوية مقبولة للجانبين أو الانسحاب من المواجهة من جانب واحد. وثمة بوادر في الأوساط الفلسطينية تشير الى ازدواجية بين الانتفاضة والرغبة في التفاوض أو عدم اقفال الباب امامه، مع المناداة بإمكان تعايش الانتفاضة مع المفاوضات. ولكن ربما كانت الاشكالية الكبرى امام الفلسطينيين كامنة في هذه الازدواجية. ذلك ان المكلفين التفاوض مرتبطون باتفاقات أمنية مع اسرائيل التي ستظل تشترط وقف ما تسميه العنف وحبس المسؤولين عنه. من هنا لا بد للفلسطينيين من اجل حل هذه الإشكالية من وضع استراتيجية جديدة تستنفر فيها ولها كل طاقات الشعب الفلسطيني، بمجموعه وبكل فصائله، لبلوغ هدفي الانتفاضة وعدم السماح بغيابهما عن منظور العمل اليومي.