"أخوض مع ورق الحائط نزالاً حتى الموت وعلى أحدنا أن يذهب"، قال أوسكار وايلد في خريف 1900 عندما كان مريضاً في فندق حقير في باريس. خسر المسرحي الأيرلندي الصراع وتوفي في آخر تشرين الثاني نوفمبر عن ستة وأربعين عاماً، وفي الذكرى المئوية الأولى لوفاته تقام ثلاثة معارض وأنشطة مختلفة عنه في لندن أكبرها معرض "سنوات وايلد: أوسكار وايلد والفن في زمانه". في غاليري باربيكان الذي يستمر حتى الرابع عشر من كانون الأول ديسمبر 2001. يلقي المعرض الضوء على عمله الصحافي والنقدي وفكره السياسي التقدمي وشعره ومسرحياته، ويضم أعمالاً ومنحوتات لأربعين فناناً منهم أوغست رودان وجون سنغر سارجنت وادوارد برن جونز وهنري تونوز لوتريك وجيمس ماكنيل ويسلر. وتتذكر لندن أيضاً اهتمام وايلد بالتصميم الداخلي في معرض "البيت الجميل: أوسكار وايلد والداخل الجمالي" الذي يستمر حتى الحادي والعشرين من كانون الأول ديسمبر المقبل في متحف جفري. طغت المحاكمة في 1895 على حياة وايلد القصيرة حتى كادت تحدوه، وهو ندم بعد سجنه لأنه لم يكرّس وقتاً أطول للكتابة. وفي 14 شباط فبراير الذي سيعرف في القرن العشرين ب"يوم العشاق" افتتحت مسرحية "أهمية أن تكون جاداً" لوايلد في لندن بحراسة الشرطة التي أحضرت لمنع ماركيز كوينزبري من الدخول واحراج الكاتب أمام الحضور. كان الماركيز والد اللورد ألفرد دوغلاس، الشاب الأشقر الوسيم، الذي أثارت صداقته للمسرحي الأيرلندي الكثير من الأقاويل. اتهم الماركيز وايلد بإفساد ابنه وابتغى قطع علاقتهما لكي يكرس الأخير وقته لعمل ما، وما كان وايلد ليعارض ذلك لولا ضعفه أمام الشاب. كان الجانب الجسدي في علاقتهما قصير الأمد لاشمئزاز "بوزي"، كما سماه صديقه، من بدانة وايلد، وسرعان ما ترافقا فقط لاصطياد الفتيان معاً وانبهار الشاب بمكانة الكاتب الأدبية وكرمه. حلا لألفرد ان يعتبر نفسه على الأهمية الأدبية نفسها لوايلد. إذ كان يكتب الشعر، وهو الذي صاغ العبارة التي لا تزال تستعمل حتى اليوم: "الحب الذي لا يجرؤ ان يصرح عن اسمه". شبّه وايلد الفرد بزهرة الكحلية الجميلة التي يحار لونها بين البنفسجي والأرجواني وأنفق الكثير من ماله، مال زوجته على الأصح، على متطلباته وأهوائه، الا انه حاول مراراً قطع علاقته به ولم يستطع نظراً الى الحاح الشاب الذي بلغت به القمة يوماً حد الطلب من كونستانس، زوجة وايلد، التوسط بينهما. كانت كونستانس لويد ابنة محامٍ ارلندي ثري قد يكون وايلد تزوجها لمالها ولكبح الشائعات حول حياته الخاصة. بعد حملها اشمئز من تغيّر شكلها ليبرر ربما عودته الى المثلية، ميله الأساسي، ويشدّد على كون الجمالية مذهباً حياتياً لا نظرياً عنده. "عندما تزوجت". قال لصديقه فرانك هاريس "كانت زوجتي فتاة جميلة، بيضاء وناحلة كالزنبقة، لها عينان راقصتان وضحكة مرحة متوجة كالموسيقى. بعد عام أو نحوه اختفى كل ذلك الحسن الشبيه بالأزهار. أصبحت ثقيلة، بلا شكل، ومشوهة. جرّت نفسها في البيت بتعاسة خرقاء ووجه مبقع وجسد ضخم، مريضة القلب بسبب حبنا. كان ذلك رهيباً. حاولت ان ألاطفها وأكرهت نفسي على لمسها وتقبيلها، لكنها كانت دائمة التقيؤ ... كنت أغسل فمي وأفتح النافذة لأنظف شفتي في الهواء النقي. آه، الطبيعة مقرفة، تأخذ الجمال وتدنسه، وتشوّه الجسد الأبيض العاجي بندوب الأمومة الكريهة. انها تلوث مذبح الروح... انجبت كونستانس طفلين وتوقف وايلد عن مشاركتها السرير ثم ترك المنزل الذي أنفق من مال زوجته مبلغاً طائلاً على تجديده ليستقر في الفنادق، التي وفرت له الحرية المطلوبة. ترك ماركيز كوينزبري بطاقة كتب عليها "الى أوسكار وايلد، القواد واللوطي" فحرّض ألفرد دوغلاس الكاتب على رفع دعوى على والده. كان الرابع عشر من شباط بداية النهاية، وعجّت المحكمة ببائعي الصحف والخدم الذين قدموا تفاصيل علاقتهم بوايلد وغذوا الصحف والألسنة بمواد وافرة. لكنه استطاع بسخريته وسرعة بديهته ان يقف في وجههم الى ان سئل عما إذا كان قبّل خادم أحد معارفه كما ادعى هذا، أجاب بسرعة: "بالطبع لا، انه بشع جداً". "كنت قبلته إذاً لو كان وسيماً"، قال محامي الخصم، أعطته الشرطة الفرصة ليغادر بريطانيا الى فرنسا أثناء المحاكمة لكنه بقي في الغرفة 53 في فندق كادوغان طوال النهار قائلاً: ان ادارة الفندق حجزت حقائبه لعجزه عن دفع الفواتير التي استحقت عليه بفعل اسراف دوغلاس. حكم عليه بالسجن عامين مع الأشغال الشاقة فكتب فيه "دي بروفنديس" وهو رسالة طويلة وجهها الى دوغلاس لام فيها نفسه على ضعفه واتهم صديقه بأن كراهيته لوالده كانت أكبر من حبه لوايلد "الكراهية توقف عن النمو، وهي تقتل كل شيء ما عدا نفسها". اعتبر الحب خلاصاً فردياً. ورأى اننا نحتاج الى اختبار الحزن لا الفرح وحده. وقال انه عاش دائماً في الجانب المشمس من الحديقة وان عليه الآن ان يعرف الظلال والألم في الجانب الآخر. ونظر الى رحلته المأسوية نحو البحار كما لو كانت نمواً وتقدماً في الشخصية. "وضعت عبقريتي في حياتي، وكل ما وضعته في أعمالي كان موهبتي وحدها"، قال نادماً على اهداره حياته على الملذات. هل اعتقد وايلد ان شهرته منحته حصانة ضد العقاب والإذلال؟ كاتب سيرته ريتشارد إلمان يقول انه كان عنيداً شجاعاً وشهماً ويشبّهه بهاملت المتردد. كان متعباً ولم يأخذ أي مبادرة لأنه شاء "ان يبعد نفسه عن مصيبته ويتحول الى متفرج على مأساته ... اهتم بصورته ورفض ان يفكر بنفسه كهارب يتسلل في الزوايا المظلمة بدلاً من أن يتصدر الأضواء". اعتنق وايلد مذهب الجمالية منذ كان طالباً في اكسفورد واعتبر الجمال في حد ذاته خيراً، لكنه جرّد الجمال في ما بعد من أي بعد أخلاقي وقال ان الفن يخاطب العين أو الأذن من دون أن يثير عواطف غريبة عنه مثل الحب والوطنية والشفقة والإخلاص الخ. وفي حين يراه كثيرون نجماً أدبياً يعتبره البعض مدعياً انتعال نظرية الفن للفن من الرسام الأميركي جيمس كانيل وسلر ويسخر من محاضراته عن التصميم الداخلي في أميركا لجهله في هذا المجال وحبه البهرجة. وبينما يراه المثليون اليوم شهيداً يتهمه البعض بتحويل المثلية في محاكمته من مجرد عادة للطبقة العليا الى فعل لا أخلاقي وشرير. وكان من آثار المحاكمة أيضاً حصر حرية الفنانين الرمزيين في الاختبار واضطرارهم الى التزام حدود فنية لارتباطهم بوايلد وحركته. في كتابه "أندريه وأوسكار! جيد، وايلد وفن العيش المثلي" يقول جوناثان فراير ان وايلد فضّل الأطفال وقدم الى أندريه جيد غلاماً عربياً في الجزائر في 1895 كان أول تجربة مثلية للكاتب الفرنسي. كيف يعتبر وايلد، تساءل فراير، بطلاً للمثليين هو الذي كان من سياح جنس الأطفال؟ كثيرون يتجاهلون تصرفه خارج بريطانيا ويحصرون مأساته في كونه عاش في الزمن الخطأ. كانت المثلية شائعة لدى الإغريق وباتت قانونية بين البالغين في بريطانيا في 1967، لكن وايلد عاش في الحقبة الفكتورية ودفع الثمن لا لممارسته الفعل بل لالقاء الضوء عليه وتحديه التستر والانكار. لم تقطع كونستانس علاقتها بزوجها وبقيت تراسله وترسل له صور طفليه، لكنها لم تسمح له برؤيتهما، كانت في سويسرا عندما طلب منها مدير الفندق أن تتركه خشية أن يدفع وجودها سائر النزلاء البريطانيين الى الهرب. فعلت ودفعها الذل وخوفها على طفليها الى تغيير اسم العائلة الى هولاند، وتوفيت أثناء عملية جراحية وهي في الأربعين قبل أن يتوفى زوجها بسنة واحدة. اللورد دوغلاس كتب بعد سجن وايلد انه فخور بحبه لكنه ما لبث ان ارتد ضده ونبذ المثليين وتزوج مثلية عرف معها السعادة بضع سنوات ثم افترق عنها عندما منعته من مس أموالها بعدما أهدر الكثير منها على دعاواه القانونية. سجن ستة أشهر مع الأشغال الشاقة عندما اتهم ونستون تشرتشل بتدبير مقتل اللورد كتشنر بناء على نصيحة متمولين يهود، وكتب قصيدة معادية لليهود أشار فيها الى والدة تشرتشل اليهودية: "الجرثومة المجذومة لإسرائيل المبعثرة/ نشرت عدواها في دمك الانكليزي". آمن بعبقريته الشعرية وبعث برسالة الى وليم بتلر ييتس الفائز بجائزة نوبل للأدب في 1923 قال فيها ان ييتس دونه مقدرة شعرية. تحول الى نسخة عن والده الذي كرهه وتبرأ من ابنه عندما كان في الرابعة عشرة فعاش هذا في بؤس وأمضى معظم حياته في مصح.