ترتبط برامج التسلية كافة، على الشاشة الصغيرة، غرباً وشرقاً، بعنصر المال. لذلك لا بد من استبعاد عنصر الصدفة، باديء ذي بدء، والبحث عن وظيفة المال في أنماط التسلية السمعبصرية المعاصرة، عندنا وعند سوانا من شعوب كوكبنا الجميل والبالغ التعقيد في آن. التسلية من الوظائف البنيوية التي يتميّز بها البرنامج التلفزيوني الكلاسيكي النموذجي، اذ ان الانسان المعاصر اعتاد الجلوس امام شاشته ونشدد هنا على ال"هاء" لتمضية أوقات فراغه وايجاد التسلية والراحة، بعد يوم من العمل او أثناء العطل. فهو يسترخي نفسياً وذهنياً امام صندوق أحلامه ويبدأ بتلقي رسائله بحالة من الانجذاب والاسترسال شبه الكلىّين. قامت دراسات عدة بتحليل هذا الجانب من علاقة "الاعزاء المشاهدين" بالشاشة الصغيرة، الممثّلة بمقدّمة البرامج الفاتنة. لكن ما دخل المال في هذه العملية، عبر برامج التسلية، في وقت ينتظر المشاهد الصامت ان يرتاح من هموم الخارج وهو في حضن التلفزيون الدافىء وفي كنف بيته الحميم ومن هموم العمل التي يتمحور قسم كبير منها حول المال تحديداً؟ لماذا يعود المال من الشباك، في وقت يكون قد طرده الجالس امام جهازه التلفزيوني من الباب؟ وكيف يتمكن هذا العنصر - الهاجس ان ينساب الى وعي المشاهد المخدّر ويتملكه، فيعيد تنشيطه من جديد، لدرجة ان غريزة الربح تعود فتسيطر، داخل البيوت وفي اطار الاسرة المجتمعة، على العقول والنفوس؟ هل من سِحر للمال، أم هل ان الشاشة الصغيرة هي التي تعطيه هذه الأبعاد الكلية التي تستنهض المشاهد شبه الغارق في قيلولة، فتعيد اليه النشاط والنخوة في آخر النهار وكأنه صاح لتوّه من النوم؟ أم هل ان كوكتيل التسلية والمال كوكتيل ذو مفعول كحولي على وعي الانسان المعاصر وادراكه؟ عندما بثت محطة "بي.بي.سي" التلفزيونية اول برنامج ألعاب في العالم، في 31 ايار مايو 1938 مرّ الحدث من دون ان يثير الانتباه. الا انه تبيّن لاحقاً، في الستينات والسبعينات وخصوصاً اليوم، ان المشاهدة التلفزيونية كانت قد دخلت إذذاك عصراً جديداً. حيث ان برامج الالعاب سوف تكتسح تدريجاً المحطات وتلعب دوراً اساسياً في استقطاب الجماهير الشعبية الواسعة الى الشاشة الصغيرة. ولم تنجح برامج الالعاب التلفزيونية بهذا الشكل الا لانها قامت على معادلة سمعبصرية ناجحة هي التآلف التام الذي قام في إطارها بين المشاهدة واللعب. اذ ان العمليتين كانتا قبل ذاك منفصلتين. كانت المشاهدة تقوم على الجلوس امام الشاشة الصغيرة وتلقي رسائلها الباردة، على نحو ما حددها الكندي مارشال ماكلوهان. لذلك كانت المشاهدة إنفعالاً حسّياً وذهنياً مع البرنامج التلفزيوني، ولكن عن بُعد وفي حقلين مستقلّين احدهما عن الآخر: حقل المشاهد الجاثم امام شاشته الصغيرة وحقل الجهاز التلفزيوني كمصدر لصور ناطقة ومتحركة. اما مع برامج الالعاب التلفزيونية فقد شُيّد جسر يربط بين الحقلين، فانتقل المشاهد التلفزيوني من مجرد مشاهد للبرنامج الذي يُبث أمامه الى شريك في هذا البرنامج فتحوّلت المشاهدة، ومن حيث لا تدري، الى مشاركة. وغدا المشاهد، في هذا السياق الجديد، أحد ممثلي البرنامج الذي يُبث بحضوره الشخصي. هذا الانقلاب الصامت فتح الباب امام تغييرات جذرية حصلت لاحقاً في العملية التلفزيونية التي سوف ترتقي الى مستوى الفن. حيث ان القيّمين على الابتكار التلفزيوني فهموا مدى أهمية هذه الظاهرة المعرفية المبتكرة التي جعلت من المشاهد شريكاً في البرنامج التلفزيوني، وبالتالي شريكاً في العملية السمعبصرية ككل. ومن إدراك الاهمية العملانية لهذا الجانب من علاقة المشاهد بشاشته الصغيرة دخلت سلسلة برامج الألعاب الطويلة التي غزت، بعد الحرب العالمية الثانية، اوروبا وأميركا الشمالية لتنتقل، بعدها، الى أقطار العالم كافة. لكن هذا الاكتشاف المعرفي لم يكن الاكتشاف الوحيد الذي حصل، ذلك انه بعد فترة اختبار طويلة نسبياً حتى منتصف الخمسينات تبيّن ان برنامج الألعاب التلفزيونية، على حسناته، كان قصير المفعول على صعيد المشاهدين، اذ انهم سرعان ما كانوا يملّون منه بعد خمس أو ست حلقات. الامر الذي اقتضى مراجعة الموضوع والبحث عن صيغة أطول نفساً واكثر ثباتاً. فبعد اكتشاف "برامج التسلية" حصل اكتشاف آخر، هو "برنامج التسلية والربح". فدخل المال كعنصر منقذ على برنامج الألعاب. وسمح المال بتحويل برنامج الالعاب من برنامج مثير أقل فأقل لحماسة المشاهدين، مع توالي الحلقات، الى برنامج مثير اكثر فاكثر لحماسة المشاهدين الذين كانت تتسع حلقتهم اكثر فاكثر في كل يوم. كان برنامج الالعاب ينقصه التشويق لبلوغ كماله النسبي، فجاء المال وقدّم له هذا العنصر الذي كان يفتقر اليه. فازدان بذلك برنامج الالعاب ببُعد نفسي سرعان ما أعطاه زخماً جماهيرياً كبيراً، اذ اخذ المشاهدون يتابعون بحماسة فصول الربح والخسارة مع صيغة مضاعفة الربح واحتمال الخسارة عند شركائهم الموجودين في الاستوديو وامام الكاميرا. فصيغة التسلية والربح سمحت لبرنامج الألعاب بأمرين: أولهما استعادة حضوره في شبكات البرامج واحتلال "الاوقات الذهبية" اي تلك التي تلي مباشرة نشرة الاخبار وسهرة ايام العطلة، وثانيهما توسيع نطاق الاهتمام التلفزيوني اذ غدا كل الناس، وبخاصة البسطاء منهم، يشاركون في برامج الالعاب بالمشاهدة في منازلهم وبالمشاركة الفعلية في الاستوديو. سمحت برامج الالعاب للبسطاء بالمشاركة المعنوية والفعلية في مجالات "الثقافة" من خلال الاجابة ب"نعم" أو "لا" على مسائل ثقافية اعدّها لهم سواهم وبسّطها لدرجة السذاجة. فيكفي ان يكون حظ المتباري جيداً وان يجيب بكلمة "صحيح" حيث ينبغي وبكلمة "غير صحيح" في المكان المناسب، لكي يربح من دون جهد ثقافي فعلي المال وزخّات التصفيق. وهكذا خرجت برامج "التسلية والربح" من بطن "برامج التسلية والالعاب" فتحوّلت الى شاطر حسن لم يكتفِ بانقاذ الوضع فحسب، بل أعطاه طعماً مالياً مميزاً. تجدر الاشارة ايضاً، في هذا السياق، الى ان ما وفّر للعملية برمتها اسباب النجاح هو انسجام الصيغة التجارية التلفزيونية هذه مع البنية الاقتصادية للمجتمعات المعاصرة. وكما أشار الفرنسي ريجيس دوبريه فان نموّ مجال السمعبصريات في زمننا الراهن مرتبط بكونه الشكل الأنسب والأشمل لتعميم الاذواق والممارسات الاستهلاكية. فالشاشة الصغيرة هي الحصان الابيض الذي تمتطيه اليوم الصيغة التجارية الرأسمالية. ومن هذا الانسجام البنيوي بين شكل الرسالة ومضمونها تفتّق التناغم التام بين المشاهدة والتسلية والربح. بل ان صيغة التسلية والربح قامت بوظيفة لاحقة، في المنزل، للعملية التي يخوضها الفرد في عمله. فالهدف من العمل هو بذل مجهود معين بغية نيل مقابل مادي يسمح بتأمين شروط الحياة الكريمة. اما الهدف من التسلية والربح فهو الاسترخاء من همّ تحصيل المال والتوهّم بان بامكان الفرد - اي فرد - ان يجني الارباح من دون مجهود شبيه بمجهود عمله الحقيقي. ومن هنا يغدو اللعب على توهّمات الافراد، في اطار المشاهدة التلفزيونية، جزءاً لا يتجزأ من المقاربة السمعبصرية للانسان المعاصر. فبطل برامج الالعاب هو عكس النابغة والعبقري. انه انسان عادي جداً، وبقدر ما هو بسيط وعادي في تصرفاته يتعلق جمهور المشاهدين به اكثر. وعمومية المشترك في برامج الالعاب التلفزيونية تشبه عمومية الحرية التي تدّعيها الصيغة التجارية الرأسمالية وعمومية الثروة من حيث انفتاحها، نظرياً، على جميع افراد المجتمع. فالبطل في برامج الالعاب التلفزيونية أشد الناس ارتباطاً بالذوق الشعبي العام وبالمعرفة الشعبية العامة. والاسئلة المطروحة عليه تنطلق من هذا المعيار بالذات لكي لا تتعالى عليه، فتتمكن بعدها من ايهامه بانه هو بطل المعرفة العامة، لا العامية، وبانه يمثّل النموذج الناجح العمومي. في هذه اللعبة كثير من السلاسة ومن تهريب الوقائع بالخدعة في النص والاخراج وادارة الحلقة برمتها. فالبرنامج التلفزيوني لا يعاني من قلة الشفافية، بل من شفافية مضاعفة ومكثفة في جوانب من الموضوع ليست هي الجوانب المهمة منه، بحيث ان جوهر اللعب يتحوّل تدريجاً على الشاشة الصغيرة الى تركيز الانتباه على العموميات الثقافية من ناحية، وعلى المال كجزرة مسيّلة للّعاب من ناحية اخرى، توصلاً الى عالم يلعب فيه الناس بالمال لعباً. كما تجدر الاشارة ايضاً الى نقطة اخرى مرتبطة بالسابقة وهي انسجام صيغة "التسلية والربح" التي تقوم عليها برامج الالعاب مع البنية المعرفية الجديدة التي تطلق عليها صفة "الحديثة". فالحداثة، في المجال الاستهلاكي، لا تعني بالضرورة كسراً معرفياً مع التقليد بقدر ما تعني الالتزام بما هو رائج وبما هو معتمد من ابناء عصرنا. غير ان اللغة التلفزيونية لا تحدد ما تقصده بالضبط بالانسان العصري والانسان الحديث، خالطة المفهومين على المستويات كافة في استهلال مقدمة البرنامج أو مقدّمي البرنامج، وفي الاعلانات، وفي التعليقات، وخالطة الاوراق في الوقت نفسه، بحيث ان الافراط في التبسيط يؤدي الى ضياع جوهر ما هو مقصود. فالمكافأة المالية التي يحصل عليها المشترك - البطل في برامج الالعاب التلفزيونية تعطيه وتعطي المشاهدين انطباعاً بان روح العصر كلها روح استهلاكية. فالمعلومات ربح، والاجوبة المناسبة ربح، والحظ ربح. وبالمال الذي يكسبه الرابح عليه ان يشتري. وما يهم ما سوف يقوم بشرائه، فالمهم ان يشتري لكي تبقى حلقة الاستهلاك مفتوحة. لذلك ايضاً نلاحظ ان الاعلانات التي ترافق برامج الالعاب هي الاعلانات التي تدعو المشاهد الى مشتريات مكلفة. ففي اطار اللعب بالمال والربح، يغدو الاعلان عن سلعة مكلفة شيقاً ومسلياً، كما ان ارتفاع سعرها سوف يبدو طبيعياً ومنسجماً مع روح العصر. فتهون عملية الاستيعاب الذهنية وتصبح برامج التسلية والربح بوابات واسعة جداً تعبر منها الصيغة الاستهلاكية الى الاذهان بسرعة ولباقة. من هنا "سخاء" برامج الالعاب "وسخاء" الهدايا والاعلانات المرافقة لها. فالاستثمار هنا مضمونة ردّياته ومفاعيله الايجابية على الجهة المعلنة. السهولة التي يعتمدها برنامج الالعاب سهولة تؤدي الى استرخاء ذهني يناسب تماماً المشاهد بعد يوم عمله الطويل والمتعب، الامر الذي يسمح بغزو وعيه ببديهيات ليست ببديهية تؤدي الى تدجينه استهلاكياً والى تطويعه اقتصادياً. في القرون السابقة كان ممثلو عصورهم إما ادباء وإما شعراء وإما علماء. اما اليوم فقد انتقلنا الى سجل من الاذواق الشعبية جديد يجعل من مقدّم او مقدمة البرامج بطل أو بطلة عصره. فبه او بها يهتدي المشاهدون، مشاطرين أذواق هذا وتلك، في مناخ من التسلية والبسمة والربح المقنّع الذي قد يخفي تحته الوجه القبيح لاستغلال الانسان للانسان، سمة العصور الغابرة و"الحديثة".