طوال عهد دراستي الجامعية كنت قارئاً متراخياً للرواية وغير وفيّ، كنت أستسهل مطالعة الشعر والانتاج فيه. في الشعر، لا سيكولوجيات تحلل وتشرح، ولا حوارات ولا عقد وأحداث. في الشعر السيادة للغة والصورة. وعلامات الطريق تتضح بالاقتصاد والاختزال. ولما جربت هذه العناصر وتعلقت بها، صرت أردد مع نفسي ان الشعر هو المطلق، وما سواه كالرواية والقصة القصيرة والكتابة المسرحية أجناس دخيلة على ثقافتنا العربية. كما أنني استطبت الاقامة في الدعوى ان المخيال العربي لا يواتيه إلا القصيدة. وانه، خارج القول الشعري، لا قدرة له على الرواية ككتابة وهندسة مفتوحتين على التاريخ، تحركان فيه الشخوص والأمم والأجيال والجيوش على طريقة مارغريت ميتشيل ودوستويفسكي وتولستوي، وغيرهم. طبعاً، هناك روائيون عرب وفي طليعتهم نجيب محفوظ كانت لأعمالهم بداية فضل إزاحة تلك الأوهام والغشاوات عن ناظري، إلا أنني كنت أرى، وأنا في طور القراءة والاستيعاب ان محفوظ، على رغم غزارة انتاجه، بقي متشبثاً في الغالب الأعم بالنهج نفسه، ولم يحد عنه كثيراً بعد ثلاثيته التاريخية المَطلعية، وهو المُسمى بنهج الواقعية الاجتماعية التي ليست، كما نعلم، هي كل شيء في تجارب الكتابات الروائية. عند هذا الروائي العزيز علينا، قد نقول ان نهجه لم يصبه أبداً الوهن والبوار، غير ان أمر استعارته منه اليوم والنسج على منواله أو في حماه بدا لي نوعاً من المحاكاة العسيرة بل المستحيلة. أما عودتي الى القراءات الروائية المصحوبة بتفكيري في تجريب الإبداع الروائي فلم تبدأ الا انطلاقاً من الثمانينات، وتم لي هذا بفعل عوامل كثيرة، منها مثلاً مشاهدتي بعض مسرحيات شكسبير، اضافة الى أفلام مقتبسة من روايات، أهمها "الأخوة كارامازوف" و"الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي و"زوربا اليوناني" لنيكوس كازانتزاكيس، و"اسم الوردة" لاومبيرتو ايكو. وقد كان لهذه المشاهدات وقع المحفز الكبير الذي أيقظني من سهوي عن فاعليات الكتابة الروائية والمسرحية، فرجعت الى النصوص، قارئاً، وصرت كلما تقدمت في قراءتها، تيقنت - ودائماً بصحبة الكتّاب المذكورين - ان الفواصل بين الرواية والفلسفة من جهة، وبين الرواية والتاريخ من جهة ثانية، لهي أضعف من خيوط العنكبوت. وهكذا كونت لنفسي بوصلة سميتها الرواية التاريخية - الفلسفية، وصرت بها أختار وأنتقي، وعليها أعول لتنظيم قراءاتي ومحاولة التغلب على ثغراتي في مجال تمثل الأعمال الروائية الكبرى واستيعابها. مع الإبداع الروائي تعلمت ان لا شيء يعمل ويتحقق إلا باللغة وفيها، سواء تعلق الأمر بالفكرة والبناء، أو بالسرد والتخييل. الروائي الذي تضعف علاقته باللغة وتفتر روائي فاشل بائس، حتى لو برع في هندسة البناء ووضع الأفكار، اللغة هي ذخيرة الروائي الحية: في عالم الجماد والنبات والحيوان والإنسان، بها يسمي ويصف ويصور، وبها يقطع ويُركب، وبها يلتقط ويمشهد، وبها يكبر ويصغر، وبها يحرك ويوقع فضلاً عن انها هي مالكة هويته وبوتقة حساسيته وأحاسيسه، وحتى وعيه بعالم الناس والأشياء. أضيف كلمة وجيزة في مسألة تعليمي تقنيات الكتابة الروائية. أنجع التقنيات في هذا الحقل وأنسبها هي تلك التي لا تثقل كاهل النص، ولا تظهر في مساحته كعلامات توجيه وارشاد. أجمل التقنيات هي التي تنصهر في الكتابة انصهاراً ليناً، ليكاد القارئ لا يراها، وان لاحظها ففي سياقات شفافة لا تكلف فيها ولا تصنع. وأجمل التقنيات أخيراً هي تلك التي تعشق التحرك والتحول، وتحاكي الحياة في جدليتها وتوالدها.