لو كان الجنرال أباشا ، حاكم نيجيريا العسكريّ أشد ذكاء وحنكة لما اضطهد مواطنه الكاتب وول سوينكا حائز جائزة نوبل للآداب، لكنّ أباشا كمعظم الجنرالات في العالم الأفريقي لا يهوى قراءة الأدب ولا يولي الثقافة أي اعتبار. بل هو لم يفهم معنى أن يحصل كاتب نيجيري على أكبر جائزة أدبية في العالم. فالكاتب في نظره هو مجرّد رقم من الأرقام البشريّة المدرجة في السجلاّت. وعوض أن يصون الجنرال الكاتب الشهير وأن يمنحه الاستحقاق الوطني عمد الى اضطهاده والى اتهامه ب"الخيانة العظمى". لكنّ وول سوينكا "أسد نيجيريا" كما يُسمى ليس من الأدباء الذين تغريهم السلطة ولا من المثقفين الذين يسهل ترويضهم. فهو كاتب متمرّد في كلّ ما يعني التمرّد من تضحية ورفض. ولم يزده السجن الا اصراراً على التمرّد وعلى مقاومة التسلّط الأعمى وفضح الفساد المستشري في كواليس السلطة. وكان من الطبيعي أن يحلّ وول سوينكا في منفاه محلّ سلمان رشدي في منصب رئاسة "المجلس الدوليّ للكتّاب" الذي أسسه عدد من الكتّاب العالميين في العام 1993 وهدفه مناصرة الكتّاب المضطهدين والدفاع عنهم وتبنّي قضاياهم. والمنصب الذي تولاّه سوينكا زاده شراسة وجرأة ودفعه الى جعل الكتابة وسيلة أولى وأخيرة لمواجهة الجنرال المستبدّ والظالم. ولعلّ كتابه "جرح القارّة المفتوح" الذي أثار حفيظة السلطة في نيجيريا هو خير دليل على مضيّه في معركته ولو وحيداً وفي المنفى. لكن سوينكا الذي فرّ كالمجرمين من بلاده بعدما نزلت به وببعض رفاقه عقوبة الاعدام لم يحسّ يوماً أنّه ضعيف وأعزل. فها هو يهاجم في أحد مقالاته بابا روما شاجباً زيارته لنيجيريا معتبراً أنّها تضفي صفة شرعية على نظام عسكري يحتقر المبادىء المسيحية نفسها والمتجلّية في العدالة والحق الإنساني. وان كان الكلام عن الكاتب الأفريقي المضطهد والمنفيّ مناسباً في كلّ وقت فأنّ الكلام عنه عربياً يثيره صدور إحدى مسرحياته مترجمة الى العربية في سلسلة "المسرح العالمي". والمسرحية تحمل عنواناً مثيراً هو "الأسد والجوهرة" وقد اعتبرها بعض النقاد العالميين من أكمل أعماله الدرامية. وفي المسرحية يسترجع سوينكا معالم القبيلة التي ينتمي اليها وهي قبيلة اليوروبا من خلال علاقة شائكة بين فتاةٍ وشيخ. إنها في معنى ما قصّة حبّ أفريقية في قرية نائية يشهد أهلها صراعاً بين النزعة التقليدية والنزعات المعاصرة. والحبّ الذي يرسمه سوينكا في تلك القرية هو حبّ مأزوم كالحياة الأفريقية عموماً. وليس استسلام الفتاة الجميلة لاغراءات شيخ القبيلة ورفضها الشاب المثقف إلاّ عودة الى الفطرة البريئة وهرباً من التصنّع والمخاتلة اللذين وجدتهما في الشاب المثقف أو المدّعي الثقافة والتحرّر. يمضي سوينكا كعادته في فضح الحياة الأفريقية المعقّدة والمهجّنة وهي عجزت عن الانفتاح على الحداثة انفتاحاً حقيقياً وعجزت في الحين عينه عن الحفاظ على أصالتها فأضاعت هويتها وغدت لا جذور لها ولا انتماء. هذه الهموم الذاتية والوجودية والوطنية عالجها سوينكا في مسرحه وفي سيرته التي كتبها في مراحل مختلفة ساعياً الى رسم صورة شخصية ذاتية تليق به ككاتب مضطهد ومنفيّ كابد العذاب والبؤس منذ يفاعه. وان كان منفاه الأميركي الحاليّ أقلّ هولاً ومشقّة من منفاه الداخلي في نيجيريا فهو يحنّ دوماً الى أرضه السوداء والى الهواء الأفريقي والشمس الحارقة. وهو يحيا في الخارج كما لو أنه يحيا في الداخل، متابعاً أخبار الجنرال وأخبار المواطنين البؤساء والصامتين والمعذّبين. وان كان الأدب عزاءه الوحيد في غربته الأميركية فهو كما يعترف، لم يستطع أن يحلّ محلّ الحياة. الأدب في هذا المعنى رديف للحياة بل قرينها الآخر. وكاتب مثل وول سوينكا يصعب عليه أن يتخلّى عن الحياة كلياً لينصرف كلياً الى الأدب. فهو كاتب ملتزم وليس مجرّد كاتب، بل هو كاتب متجذّر في أرض الواقع، واقع بلاده وواقع العالم. وفي منفاه حمل وول سوينكا بلاده معه وهموم بلاده وهموم المواطنين الذين لم يستطع أن يتخلّى عن احلامهم.