تتوجه رومانيا اليوم الى انتخاباتها الرئاسية والبرلمانية، وهي الرابعة منذ سقوط نظام تشاوشيسكو في كانون الأول ديسمبر 1989. فقد جرت الأولى في أيار مايو 1990 والثانية في أيلول سبتمبر 1992 والثالثة في تشرين الأول اكتوبر 1996. وتدل استطلاعات الرأي أن الحزب الديموقراطي الاشتراكي، بعد أن كان في موقع المعارضة في السنوات الأربعة الأخيرة، سيفوز بغالية الأصوات. والأرجح أن يحصل على الأكثرية المطلقة من المقاعد. وإذ صحت الاستطلاعات، فستكون هذه المرة الأولى منذ انتخابات أيار 1990 يفوز بها حزب سياسي بالأكثرية المطلقة في انتخابات برلمانية تعتمد على التمثيل النسبي، ما يدعو الى النظر في الصورة السياسية العامة للبلاد خلال عقد كامل من التغيير. فالحياة السياسية والانتخابية تميزت، في تسعينات رومانيا، بسمتين عامتين. الأولى عكست الطبيعة الفوقية للتغيير. فهنا أيضاً رعا التحولَ نخبٌ سياسة انبثقت من داخل جهاز الدولة والحزب في ظل بدايات تململ داخلي وضغوطات خارجية قوية ناتجة عن تحول السياسة العالمية في 1989. وقد قاد الحكومة الانتقالية في كانون الأول 1989 مجلس جبهة الخلاص الوطني، الذي ضم ضباطا وطلابا ومثقفين ومجموعة من قيادة الصف الثاني للحزب برئاسة ايون اليسكو، وطرح عشر نقاط للتغيير على النموذج الغورباتشوفي كنظام التعددية الديموقراطية وإلغاء التسيير المركزي للاقتصاد... الخ. وكان العنوان السياسي لهذا التحول "التغيير مع حفظ الاستقرار"، وهو ما دعمته نزعة محافظة تعيد الاعتبار لرموز ولغة وطنيتين، كما جرى وضع حد سريع للتعبئة السياسية المضادة بحشد قوى مناهضة لها عمال المناجم في مواجهة الطلبة والمثقفين في أحداث أيار وحزيران 1990 وتجيير المعارضة في قنوات دستورية. أما السمة الثانية فكانت واقع الاستقطاب الذي نشأ بعد التغيير. فقد ظهرت، في غياب معارضة سابقة، ظاهرة تشرذم عبّر عنها العدد الكبير من الأحزاب الصغيرة، وعودة النشاط لأحزاب تقليدية من مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية انشأتها قيادات من الخارج افتقرت إلى قاعدة اجتماعية مهمة، وبروز أحزاب قومية خاصة في منطقة وجود الأقلية الهنغارية 25 في المئة من سكان ترانسلفانيا و8 في المئة من رومانيا. في هذا الوضع، كانت سياسة الاستقطاب عاملا مهما للحزبين التقليديين، الليبرالي الوطني والفلاحي الوطني - الديموقراطي المسيحي، فسمحت لهما بلعب دور مؤثر وصولاً إلى النجاح النسبي في انتخابات 1996 على رغم ضيق قاعدتهما السياسية. لكن المستفيد الرئيسي كان الوطني - الديموقراطي المسيحي، بما أنه حين كان منفرداً بدت فاعليته محدودة نال 5.2 في المئة من الأصوات في 1990 وحصل الليبرالي على 7 . وشكل هذا الحزب محور ائتلاف انتخابي اطلق عليه تسمية "المؤتمر الديموقراطي" جمع، إلى الحزبين، منظمات صغيرة ذات تلاوين متعددة التفت على معارضة ما اعتبرته رموز النومنكلاتورا في السلطة. لقد بنى حزبا اليمين جزءاً مهماً من رصيدهما الانتخابي على العلاقات الوثيقة بالغرب والتوقعات المتلازمة مع ذلك من زيادة المساعدات والاستثمارات الغربية. لكن برنامجهما خاطب فقط جمهوراً محدوداً، وإلى حد ما نخبوياً، يتركز بين المتعلمين الذين يقدم التغيير الاقتصادي لهم فرصاً أفضل، وأهمل بشكل استثنائي مصالح فئات واسعة متضررة. وغني عن القول إن جبهة الخلاص نفسها لم تكن جسماً ايديولوجياً متجانساً. وانبثقت منها، مع اشتداد الخلاف حول أساليب التحول ودرجاته، ثلاثة أحزاب أهمها "الحزب الديموقراطي الاشتراكي" بزعامة ايون اليسكو، وهو الأقوى والأكثر تمسكاً بسياسة الحماية الاجتماعية، ومن ثم "الحزب الديموقراطي" بقيادة بترو رومان الذي استقال من رئاسة الحكومة الانتقالية الأولى في أيلول 1990، داعياً إلى تسريع عملية الخصخصة وإلى عقلية أكثر انفتاحاً وتجديداً، وأخيراً "التحالف من أجل رومانيا"، وهو انشقاق عن الحزب الديموقراطي الاشتراكي بعد خسارته الانتخابية في 1997. وتصنف تلك الأحزاب نفسها في موقع يسار الوسط وفي الاتجاه الاشتراكي - الديموقراطي. وبين العديد من اليافطات الحزبية أظهرت نتائج الانتخابات السابقة محورية الحزب الديموقراطي الاشتراكي، وهو الأقوى والأكثر تماسكاً 7.27 في المئة من الأصوات في 1992 و5.21 في 1996، قابله الائتلاف الانتخابي ل"المؤتمر الديموقراطي" 1.20 في المئة و17.30 في 1992 و1996، وجاء الحزب الديموقراطي ثالثاً 2.10 و9.12 في المئة. هذا، فيما استطاعت الأحزاب القومية الحصول على نسبة سمحت لها بلعب دور مشارك في الحكومات، ومنها "الاتحاد الديموقراطي للمغيار" المدافع عن حقوق الأقلية الهنغارية، ومنافسه "حزب الوحدويين الوطني الروماني"، وأيضاً "حزب رومانيا الكبرى". وتأخر ضمن هذا الوضع التبلور والاستقرار الفعليان للتشكيلات الحزبية، ما انعكس في سياسة المرحلتين اللتين أعقبتا انتخابات 1992 و1996. اما سياسة الحزب الديموقراطي الاشتراكي، بعد فوزه النسبي في البرلمان وانتصار مرشحه للرئاسة ايون اليسكو تفي 1992، فلم تُبن على قاعدة برنامج سياسي أو توجّه ايديولوجي واضح، بل كانت مدفوعة بنزعة براغماتية محافظة من على اليسار. هكذا، ومن دون خريطة أو بوصلة، اعتمد اليسكو على حس عام جيد للبقاء ولحفظ الاستقرار. وعمل حزبه على تصوير نفسه كحزب الدولة الذي يمكن ان يجاري الجميع كان لديه عدد من رجال الأعمال في البرلمان، وضم "رؤساء بلديات وإدارات، برلمانيين ومحافظين، مديري منشآت ومؤسسات". واتبع سياسة خارجية كان محورها السعي لدخول الوحدة الأوروبية قبول رومانيا عضواً مساعداً في 10/1992 وتحسين العلاقة مع الناتو مجاراة العقوبات الاقتصادية ضد يوغوسلافيا منذ 1992 والانضمام إلى برنامج الناتو للشراكة من أجل السلام في 1994. وانعطفت نزعة البقاء بالحزب نحو التحالف مع الأحزاب القومية في 1994-1995 ازاء محاولات المعارضة طرح الثقة بالحكومة، الأمر الذي ساهم في تقوية حدة الاستقطاب لغير صالحه. لقد عكس عهد اميل كوستاتنسكو، الذي انتخب رئيساً في 1996، التنافس الحزبي الحاد من داخل التوليفات الحكومية. فاعتمد نجاح التشكيل الحكومي لائتلاف "المؤتمر الديموقراطي" الذي أوصله إلى الرئاسة، على تكييف أحزاب الائتلاف وأحزاب أخرى خارجه، كالاتحاد الديموقراطي للمغيار الذي شجعت مشاركته في الحكومة على تنفيذ السياسات المتعلقة بالأقليات والحزب الديموقراطي ومعه حليف اشتراكي، الذي لم يكن التعايش بينه وأحزاب الائتلاف سهلاً. وكانت حكومات المرحلة بالتالي ضعيفة تجاه نوعين من الضغوط خارجي وداخلي. واستقال أول رئيس حكومة، فيكتور تشيوريا الذي ادخل سياسة العلاج الاقتصادي بالصدمات كما أملاه التنسيق مع صندوق النقد الدولي بسبب ضغط داخلي قاده الحزب الديموقراطي في أوائل 1998، تاركاً المنصب لشخصية أكثر مجاراة لسياسة التوافق الوطني رادو فاسيلي إلى أن تم في أواخر 1999، ومع بدء مفاوضات الدخول إلى الوحدة الأوروبية، تعيين رئيس الحكومة الحالي ميغور ايسرسكو وهو مدير البنك الوطني، للعمل على تنفيذ مستلزمات التحول الاقتصادي بما يتناسب مع تلك المفاوضات. ويبدو اليوم أن خيبة الأمل من الحكم الحالي أوصلت ائتلاف المؤتمر الديموقراطي ومعه حزب الفلاحين الوطني - الديموقراطي المسيحي إلى تراجع قد يؤدي إلى خروجهما من البرلمان في انتخابات هذا اليوم، إن لم يحصلا على نسبة الحد الأدنى من الأصوات. وهناك أسباب عدة لهذا التراجع، منها أن الرصيد الانتخابي لتحالف أحزاب اليمين، الذي بني على وعود لم تتحقق،، كالدخول السريع إلى الناتو الموضوع المحوري للحملة الانتخابية في 1996 والازدهار الاقتصادي عبر تعاظُم المساعدات والاستثمارات الغربية، أصبح ضعيفاً. فكان على رومانيا، على العكس، أن تدفع ثمناً اقتصادياً باهظاً من جراء الحرب ضد يوغوسلافيا وخسارتها التجارة عبر الدانوب. واضيف هذا إلى الثمن الآخر الباهظ لتسريع وتيرة الخصخصة وسوء الإدارة الاقتصادية، ولم يعد التدهور في مستوى المعيشة أمراً محمولاً: وتشير الاحصاءات إلى أن 40 في المئة من السكان يعيشون ما دون مستوى حد الفقر، ولذلك جرت الحملات الانتخابية بكثير من الهدوء ومن دون بهرجة أو تجمعات احتفالية، وبطريقة خجولة غير مدعية. ولا تركز تلك الحملات على موضوع محوري، لكن الملاحظ أن أيا من الأحزاب لم يتجنب هذه المرة التطرق إلى موضوع الافقار. إن أهم تحول انتجته هذه الفترة وقد تظهره الانتخابات، هو نهاية الاستقطاب السياسي مع انتهاء فاعلية "المؤتمر الديموقراطي". وبذلك يحتل الديموقراطي الاشتراكي مساحة سياسية أكبر، زاد منها ربما تطلع الناخبين مرة أخرى إلى يد قوية ويد مساعدة. فاليوم تتنافس مجموعة رئيسية من الأحزب حلت محل القطبين الرئيسيين، لكنها تتنافس في حالة تدعو إلى اعتبار أن أشياء وموازين قوى ستتغير بشكل ملحوظ، وهو ما يستدعي التفاتة لاحقة...