ماذا يجمع بين نجوم هوليوود ومشاهير الفنانين في عاصمة السينما في العالم وبين الزعيم الروحي لبوذيي التيبت الدالاي لاما ورهبانه المنفيين خارج بلدهم الصغير والبعيد في جبال هملايا؟ وما سر جاذبية هذا الرجل السائر بصندله الى أي بلد يدعى اليه، الخالي اليدين والأمتعة، المتنقل بلباسه البرتقالي الشهير في مدن القرار بما في ذلك هوليوود، بحثاً عما يدعم نضاله السلمي لاستقلال التيبت وعودة الرهبان البوذيين الى معاقلهم هناك وممارسة طقوسهم التي توارثوها من مئات السنين؟ للوهلة الأولى، ومن متابعة وقائع حفل عشاء غير عادي في فندق "بيفرلي ويلشير"، أحد أفخم فنادق بيفرلي هيلز في لوس انجليس حضره مئات الأشخاص بينهم مشاهير من الفنانين والأثرياء في هوليوود، يلفتك هذا التناقض الصارخ في المظهر بين كبير الرهبان البوذيين وجيشه من رهبان التيبت بلباسهم التقليدي المتواضع، وبين الأزياء الحرير للساهرين المشاركين في العشاء البالغ كلفته 700 دولار للشخص الواحد. انها هوليوود الساحرة والساهرة الليلة مع الدالاي لاما وهؤلاء هم أبناؤها الأثرياء والأقوياء الذين يعيشون فراغاً روحياً هائلاً، ويبحثون عما يملأ هذا الفراغ من روحانية الشرق البعيد. وفي مقدمة الحاضرين الفنانون ريتشارد غير وهاريسون فورد وشارون ستون وشيرلي ماكلين وأوليفر ستون وسيدني بولاك وستيفن سيغال وغيرهم. هؤلاء حضروا لأسباب مختلفة أهمها ما أسرّ به ريتشارد غير لأحد الصحافيين "عندما تكون قريباً من الدالاي لاما تشفى روحياً". لكن الزعيم الروحي للتيبت بدا بينهم ووسط القاعة الواسعة والفخمة للفندق الشهير، كأنه خارج زمانه ومكان، يمارس حضوراً اجتماعياً صرفاً غايته جمع الأموال والمساعدات لقضيته، ولا بديل له عن هذا النوع من الحضور يخترق به وسائل اعلام الغرب والسينما الأميركية ليطلق وعياً عالمياً يضغط به على حكومة الصين للانسحاب من التيبت وتحقيق حريتها واستقلالها. وهو هنا في هذه السهرة يواصل مسيرته السياسية فيما يحاول الحضور استيعابها كدرس في الروحانيات. لذلك عندما وقف يخاطبهم من المنصة استقبلوه وقوفاً بعاصفة من التصفيق. توقعوا أن يسمعوا منه كلاماً روحانياً مليئاً بالحكم الشرقية التي يفتقدونها في عالمهم المسرع الى المادية والاثراء. لكنه خاطبهم بكلام سياسي عن الأوضاع الحالية في التيبت والرغبة في بذل ضغوط على المسؤولين الصينيين ليجلسوا معه ويتفاوضوا بشأن مستقبل بلده، داعياً الى التسامح والى ترسيخ مبادئ السلم واللاعنف في العالم. وعلى رغم ذلك، كان حضوره كالشمس بين نجوم هوليوود التي انحنت لوهجه. وخرجت صحيفة "لوس أنجليس تايمز" في اليوم التالي بعنوان كبير "هوليوود تقول هالو للدالاي". وهذا الاهتمام لم يلق مثله غير الأم تيريزا ونلسون مانديلا. نظمت حفل العشاء "المؤسسة الأميركية للهملايا" التي دعت الدالاي لاما الى أميركا. وهي منظمة خيرية يديرها رجل الأعمال الثري ريتشارد بلام، وتتولى تمويل مشاريع اجتماعية في منطقة الهملايا. لكن كثيرين من الذين يتبرعون للمؤسسة ويتقربون من اتباع الدالاي لاما في هوليوود انما يفعلون ذلك لتمضية وقت مختلف عن عاداتهم اليومية. الفنان ريتشارد غير هو أكثر نجوم هوليوود شهرة في علاقته مع الدالاي لاما وحركة استقلال التيبت، ويُنظر اليه كأنه كبير اللاما الأميركيين. وهو كان أول من أطلق قضية التيبت في هوليوود أثناء الاحتفالات بجوائز الاوسكار عام 1993 عندما أعلن من منصة التكريم اعتراضه على احتلال الصين للتيبت، ومنذ ذلك الوقت لم يتعب من حمل قضية التيبيتيين في المنفى، ويواصل انتقاداته العلنية للصين فيما يعتبره انتهاكات لحقوق الإنسان. يصف ريتشارد غير العلاقة بين التيبت والصين مثل تلك بين داوود وجوليات الجبار. ويقول لأبناء التيبت "عليكم المحافظة على هذا الإحساس بالفرادة وذلك الالتزام الثقافي الأصيل في اللاعنف. إذا حملتم الأسلحة تخسرون وضعكم المميز". ويسترجع الفنان الشهير محاولاته الأولية المؤلمة في تعلم مبادئ الممارسة الدينية البوذية "زن" ويقول "كل يوم كنت أذهب فيه الى المصلى البوذي كان يطلب مني ممارسة جلسات التأمل "زازن". كنت أرى خمسة أو ستة أشخاص يستدعون لممارسة "دوكوسان" في الغرفة المجاورة، أي ممارسة درس وجهاً لوجه مع المعلم، ولا أحد كان يستدعيني. كلهم كان لديهم شيء يقولونه للمعلم، أما أنا فلم يكن يسمح لي بشيء... لا شيء. وفي المرة الأولى التي تذمرت فيها ودخلت غرفة المعلم أوقفني وقال: تابع ممارسة "زازن" أي التأمل جلوساً، وأخرجني من غرفته. وفي اليوم التالي أيضاً وبعدما مارست "زازن" 12 ساعة بدأت أنهار. ظهري وقدمي وكل شيء فيَّ يؤلمني. كنت أصرخ من الألم ولم أكن أستطيع التعامل مع عقلي للسيطرة على ألمي. ولا أريد ان أدخل الى المعلم لأن ليس لدي ما أقوله. أنا أبله... أنا ضائع... أنا حثالة. وبدأت أبكي. أريد أن يعرف المعلم اني حساس وان يحبني مثل الآخرين. دخلت اليه باكياً. ابتسم وقال "اخرج ومارس زازن أكثر. ويتابع غير "تحاول كل شيء ممكن لتجعل عقلك يلف أوجاعك. أخيراً استدعاني المعلم. كنت ضائعاً جداً، جلست أمامه صامتاً. قال لي: حسناً الآن نستطيع أن نبدأ". ويواصل النجم السينمائي كلامه بالقول انه عندما تعلق بأبناء التيبت لم ينظروا اليه كبطل أفلام شهير كما يفعل الآخرون الذين يستغلون لقاءهم به لطلب مساعدات مالية أو أشياء أخرى. "لم يطلب مني الرهبان أي شيء، بل أعطوني كتاباً ونشرة مطبوعة وبعض الشاي والبسكوت. في النهاية هذه استراتيجية جيدة لأنها جعلتني أمنحهم من مالي ومن وقتي. قلت لنفسي هؤلاء جماعة لا يريدون أي شيء إلا سعادتي الشخصية". حققت هوليوود أفلاماً عدة عن التيبت أهمها "كندن" و"سبعة أيام في التيبت" كان لها تأثير واسع على جمهور السينما في العالم. وأول من لفت في أفلام هوليوود الى البوذية المخرج أوليفر ستون في فيلمه "السماء والأرض" الذي يرتكز على مذكرات امرأة فييتنامية كانت تمر في فترة طلاق مؤلم. وتأثر ستون بكيف ساهمت الممارسة البوذية في مساعدة المرأة على تجاوز عذابها. أوليفر ستون من الجنود القدامى في الجيش الأميركي. حارب في فييتنام وأصيب في المعارك مرتين. وأخرج أفلاماً عدة عن فييتنام أهمها الرواية الملحمية "بلاتون"، وهو أحد أوائل الذين انتموا الى البوذية في هوليوود. وعلى رغم ان فيلم "السماء والأرض" الذي تحدث فيه عن البوذية فشل في شباك التذاكر لكنه خدم رحلته الروحية التي غيرت مجرى حياته بحسب ما يقول. وكان من أوائل الذين ذهبوا للحج في التيبت من أبناء مجتمع هوليوود، وفور عودته ساهم في بناء مركز "دهارما" لتعاليم بوذا في لوس أنجليس لمعلمه الروحي كوسوم لينغبا الذي كان أمضى عشرين سنة في السجون الصينية في التيبت بسبب معتقداته. يقول ستون انه اعتنق البوذية لأنها انفصال عن الألم، ويصعب فهمها في الغرب لكنها طريق السعادة وتحقق المصالحة مع فكرة الموت بعد استعدادات وممارسات طويلة. وقد يبدو غريباً أن يفتتن بالبوذية المسالمة الهادئة مخرج نفذ أفلاماً مأساوية عنيفة ومظلمة مثل أفلام عن نهاية العالم وعن قتل عشوائي عنيف على غرار Natural born killers ويقول ستون ان العنف جزء من الطبيعة البشرية لا يمكن الهروب منه كلياً. ويعتقد ان بوذية التيبت أكثر غفراناً للممارسات الغربية الوحشية من بوذية فييتنام أو اليابان. في زيارة الدالاي لاما للوس انجليس كشف فنانون عدة عن علاقتهم بالبوذية وعلى رأسهم بطل أفلام العنف ستيفان سيغال، وكان وصل الى حفل العشاء برفقة حراسه، مرتدياً ثوباً برتقالياً فضفاضاً، ويتدلى من عنقه قلادة من فضة لتعويذة تيبيتية. تحدث بأهمية عن نفسه قائلاً "ارتباطي بالبوذية كان سراً حتى اليوم. وانا احتفظت بهذا السر حتى عن الأصدقاء لأنهم لا يفهمونه. لكن علاقتي ببوذية التيبت عميقة جداً، أنا أتقمص روح زعيم بوذي كبير. هناك أشياء كثيرة لا أستطيع أن أتكلم عنها، أشياء يجب أن أعملها لمصلحة التيبيتيين ليس في الأفلام السينمائية فحسب بل في الحياة". ويتابع بأهمية مضاعفة "أرغب في نشر أي معلومات تفيد الناس وتقودهم الى تعاليم بوذا. لكن هوليوود مكان أصحاب النصوص الشيطانية، وعندي التزام تصوير فيلم مع شركة وورنر، بعد ذلك أصبح حرّاً وانطلق بالكلام عن روحانية التيبت واعمل لها". ويميز سيغال نفسه بعلاقته مع الدالاي لاما قائلاً: "ثمة تصرفات سخيفة يقوم بها أشخاص يدعون قربهم من الدالاي لاما، أما أنا فأختلف عنهم، منحني الدالاي لاما بركة روحية لا تعطى الا لأشخاص مهمين ولا اعتقد انه منح هذه البركة لأي شخص آخر". وكان سيغال ساهم في انشاء مراكز تعليم البوذية في لوس انجليس بعدما تعرف الى بينور رينبوش أحد الزعماء الروحيين من بوذييي التيبت، هو رئيس احد أقدم وأكثر الفرق البوذية لغراً بين الفرق الرئيسية الأربعة. ودعا هذا الزعيم الروحي الكبير سيغال الى الهند حيث أجرى له احتفال تنصيب في أحد الأديرة حضره نحو 1500 شخص تأكيداً على تقمصه روح زعيم بوذي عظيم. انه ارستقراطي بوذي جديد في مملكة السينما، يساعد مثل ارستقراطيين آخرين على كتابة فصل جديد من الرؤية الغربية لأسطورة التيبت. الحفل نجح، وأعطى الدالاي لاما شهادة في قدرة رسول التيبت على نقل رسالته الروحية وقضية شعبه الى العالم. لكن المزيد من الرغبات تعتبر في البوذية مسألة سلبية، وكذلك الأمر أن تكون في متناول الناس في هوليوود، لذلك شعر هذا المجتمع كأن اللغز الذي حمّلوه للدالاي لاما انكشف. فهو اقترب منهم وصافح كل واحد منهم بيديه الاثنين وعبّرت قسمات وجهه عن الدفء والحنان. لذلك اكتفت غالبيتهم من اللقاء بما تمثله الأيقونة الدينية التي يمسكونها بأيديهم للتبرك ثم يضعونها في الخزانة للرجوع اليها عند الحاجة، أي عندما تنضب نفوسهم من الروحانيات في عالم الأضواء والشهرة التي يعيشونها يومياً. آنذاك يصبح الاقتراب من شخص روحاني يكبح رغباته على رغم الأضواء والشهرة مثل الدالاي لاما حاجة ماسة للاستمرار في الحياة.