في النصوص الدينية لمختلف الاديان قضايا ايمانية واخرى دنيوية، تسبب الاختلاف في تفسيرها في نشوء الفرق والمذاهب المتعددة. ويكون الاختلاف كبيراً كلما تعلق الامر بالقضايا الدنيوية لكنه يكاد ينعدم كلما جرى الاقتراب من القضايا الايمانية الكبرى. أما القضايا الدنيوية التي تطال شؤون الدنيا وغيرها من العلوم، يختلف مدى المفهوم العلمي في هذه الشؤون لجهة الوضوح والدقة، وهي على خلاف قضايا الايمان والمعتقدات التي تستخلص من الكتب السماوية. وتأتي هذه القضايا في إطار علاقة الانسان بربه بينما تأتي الشؤون الدنيوية في إطار علاقة الفرد بالآخر وهي التي تستند الى شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد. واختلف اصحاب التفسير المادي للخلق مع اصحاب التفسير الالهي فقال الاولون إن المادة تتطور بفعلها الذاتي وقال الآخرون إنما يكون هذا التطور بفعل خارج عن المادة. ولكن الفريقين لم يقدما الأدلة العقلية الكافية لتفسيرهم ويعجز العقل البشري عن تقديم هذا التفسير او ذاك. وإذا كان الايمان بالله الواحد يشكل طريق السلام النفسي والتسليم لله في القضايا الايمانية وفي دورها في تقويم السلوك والاخلاق لدى الفرد وفي دفعه للتمسك بالعمل الصالح، فإن هذا السلام النفسي يمكن ان يشكل مدخلاً للسلام النفسي العام لدى الأمم وبالتالي للسلام الكوني العام. إن الخلط بين القضايا الايمانية والقضايا الدنيوية السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو الاساس الحقيقي لما يسمى الطائفية السياسية. فعندما يتدخل رجال الدين في القضايا السياسية، يختلفون بالتأكيد في الرؤية مع الآخرين حتى مع من هم من طوائفهم. وإذا اراد رجال الدين ممارسة السياسة بصفتهم مواطنين يفقدون الصفة الارشادية وليس لهم الحق في العمل السياسي اكثر من اي مواطن، وبالتالي فإن عليهم ان يتقبلوا التعارض مع الآخر كما يحصل التعارض بين التيارات السياسية المتعددة. إن "الارشاد الرسولي" الذي صدر إثر زيارة البابا الى لبنان تحدث عن المشكلات اللبنانية لكنه لم يتسبب بأية تعارضات بين اللبنانيين فكان هو الخطاب المستند الى الايمان إرشاداً وهداية. اما تحول رجال الدين الى مرجعيات مقررة في الشؤون السياسية ومحاولة ظهورهم مقررين في شؤون الدولة فإنه تعد على صلاحيات السلطات الرسمية التي هي وحدها صاحبة القرار في هذه الشؤون. الى ذلك فإن رجال الدين في كل طائفة وفي كل مذهب لا يشكلون تياراً سياسياً واحداً ولا يمثلون مرجعية روحية واحدة، والاختلاف بينهم لا يعود الى القضايا الايمانية بل الى التفسيرات الدنيوية في السياسة والاجتماع والاقتصاد. وعندما يعتبرون انفسهم مرجعية سياسية استناداً الى كونهم رجال دين فإنهم يصطدمون حتماً مع رجال الدولة وسلطاتها. في القضايا الايمانية يكون ابناء الطائفة الواحدة بل ابناء الطوائف موحدين لكنهم في القضايا السياسية لا يمكن تحقيق تيار واحد وهذه حقيقة ملموسة على مر الزمن في الواقع الراهن. كما لا يمكن اخضاع الحريات السياسية لمفاهيم المذاهب التي هي نوع من احزاب الماضي وفي الحياة الراهنة وقائع كثيرة مختلفة عن وقائع الحياة التي شكلتها. * كاتب لبناني.