في كل حدث ثقافي وعلاقة الحدث بالدين يبرز السؤال: هل «الدين» يتعارض مع «الثقافة»؟ وهل لذلك علاقة في اعتبار «الدين» أحد مكونات هذه «الثقافة» أو خارجاً عنها؟ في ظل أن كل المعطيات الاجتماعية إنما هي تعبير دقيق الوضوح لما تؤمن به الثقافة السائدة. تواجه درس مفهومي «الثقافة» و«الدين»، إضافة إلى شبكة المفاهيم المرتبطة بهما، صعوبات علمية كبيرة نتيجة تعدد المداخل وطرق الاقتراب من مثل هذه المفاهيم، التي تتسم - بطبيعتها – بالعمومية وعدم التحديد العلمي الدقيق في كثير من الأحيان. في ما يتعلق بمفهومي «الدين» و«الثقافة» بوصفهما كيانين معنويين في الأساس من وجهة نظر معظم الدارسين فيمكن تناول العلاقة بينهما من خلال مدخلين: المدخل الأول: يتعلق بطبيعة الاحتواء في ما بينهما، إذ يمكن لعالم السوسيولوجيا أن ينظر إلى الدين بوصفه أحد مكونات ثقافة المجتمع، أو أنّه الانعكاس المعنوي لطبيعة التركيبة الاقتصادية/ الاجتماعية لهذا المجتمع أو ذاك، مثله مثل غيره من مكونات «البناء الفوقي» للمجتمع. وقد يرى بعض السوسيولوجيين أن الدين هو المكون الجوهري والأساس الموحد للجماعة أو المجتمع، الذي يحدد رؤيته الكلية للعالم، ويحدد من ثم البناء الثقافي كله، كما يوجه المسار الاجتماعي والحضاري للمجتمع بوجه عام. أما المدخل الثاني للمقارنة فيتعلق بطبيعة كل من مفهومي «الدين» و«الثقافة»، فالدين هو موضوع إيمان واعتقاد مطلق «لا نسبي»، بينما «الثقافة» هي موضوع رؤية للعالم وتوجهات عامة وميول ونزعات تتصف بالنسبية «لا بالإطلاق» في نهاية الأمر، على رغم قوتها وبطء تغيرها مع الزمن، فالدين عند «كل صاحب دين» إيمان والتزامات عملية، ولكن حين يبدأ المؤمن في توسيع دائرة دراسته لتشمل أقواماً غير قومه، وديناً غير دينه، فهو يضيف دائرة الثقافة إلى دائرة الدين، فالحقيقة الواحدة دين عند إنسان، وثقافة عند إنسان آخر. ولكن هذا الفهم للعلاقة بين مفهومي الدين والثقافة لا يخص ثقافة الغير فحسب، فالإنسان الواحد والمجتمع الواحد له معتقده الديني المطلق، كما أن له ثقافته ورؤيته الكلية للعالم التي قد يكون المطلق الإيماني الديني المكون الجوهري فيها أو لا يكون، بحسب طبيعة ثقافة كل مجتمع وبحسب طبيعة التكوينين المعنوي والفكري العام لكل دائرة حضارية. البحث في واقع العلاقة بين مفهومي «الدين» و«الثقافة» تقف بالدرجة الأولى عند مهمة الصلح بين الدين الواحد! أعني مهمة الصلح بين «الإسلام والإسلام». فليس هناك إسلام واحد وحيد يتفق عليه الجميع: التيارات الإسلامية والمسلمون، بل هناك «إسلامات عدة» وفرق كثيرة، وهناك المذاهب الأربعة الكبرى التي تختلف في ما بينها في بعض الأحكام والإفتاءات، والمفارقة أن كل هذه المذاهب والفرق تنطلق من المصدر نفسه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. هذا التعدد هو أمر طبيعي نتاج ثلاثة أسباب رئيسة: الأول: أن النص المقدس «القرآن» نص عمومي إطلاقي شمولي كلي، ولذا فهو يتسع لشتى التأويلات والقراءات والتفسيرات، وهي تأويلات وقراءات وتفسيرات تتعدد وتتخالف بحسب روح المفسر أو منهجه أو«مصلحته» في بعض الفرق أو التيارات، أو حسبها مجتمعة. ولعل في مقولة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه حينما قال عن القرآن «إنّه حمّال أوجه»، وحينما دعا أنصاره، إبان الفتنة الكبرى، ألا يحاجوا الخصوم بالقرآن. الثاني: أن النص المقدس «القرآن» نفسه كثير ومتعدد ومتشعب، فهو حافل بالأسانيد التي تعطي لكل تيار شرعية جازمة، فالمتشدد يجد في القرآن سنداً، والمعتدل والمتسامح يجد فيه سنداً، والمتجمد يجد فيه سنداً، والمتجدد يجد فيه سنداً، والطائفي والعرقي يجد فيه سنداً، والإنساني يجد فيه سنداً، ومحترم الآخر يجد فيه سنداً، والمكفر يجد فيه سنداً، وهكذا، فإن كل تيار أو فرقة تجد بغيتها في القرآن، وكلها مدعومة بالنص المقدس. ثالثاً: إن هناك فارقاً جوهرياً بين «الدين» و«الفكر الديني»، أي بين «النص المقدس» الذي يُسمى النص الأول، وتأويل النص المقدس وتفسيره، الذي يسمى النص الثاني. فالأول سماوي لا مراء فيه، والثاني بشري أرضي يخطئ ويصيب، يغرض ويتنزه عن الغرض. تنشأ المعضلة حينما يحل أهل الإسلام السياسي النص الثاني محل النص الأول، فيصبح «الفكر الديني» هو «الدين»، ويغدو نقد الفكر الديني أو الاختلاف عنه محرّماً ومكفّراً بوصفه نقداً للدين، ومن هنا ينشأ التناحر بين الإسلامات المتنازعة المختلفة، أو بين الإسلام وغيره من أديان أو نظريات أو تيارات أو مدارس فكرية. قد يكون هناك منظور أو قراءة محددة للدين، وقد يكون هناك فهم محدد للدين، لكنه يجب ألا يقف نقيضاً لباقي القراءات والمنظورات الأخرى ما دام «العيش المشترك» و«التوافق» و«التكامل» هي مفاهيم السلام والأمن العالمي والمجتمعي المنشودة. حين يحضر منطق «العنف» و«اللاسلم» و«الصراع» سوف يتعارض «الدين» و«الثقافة»، أما حين ينتفي «الصراع» و«المصادمة»، فسيتعايش «الدين» و«الثقافة». * أكاديمية وباحثة سعودية في شؤون الأمن الفكري. [email protected]