الكتاب: استعارة مكان شعر الكاتب: عادل محمود الناشر: دار رياض الريس - بيروت 2000. "استعارة مكان" المجموعة الرابعة للشاعر السوري عادل محمود بعد "قمصان زرقاء للجثث الفاخرة" عن وزارة الثقافة في دمشق عام 1978، و"ضفّتاه من حجر" عن اتحاد الكتّاب العرب 1981، و"مسودات عن العالم" عن وزارة الثقافة في دمشق أيضاً 1982. ثمانية عشر عاماً من الصمت لأن الشاعر يعتبر "الكتابة تعويضاً عن حياة، والحياة هي الأهم". لكن الاعتبار هذا أشبه بتعويض عن حرية الكلمة. قبل اثنين وعشرين عاماً كتب في قصيدة: "واهمٌ أبحث عن امرأة تقول لا في وجه شارعٍ مزدحم برجل... برجل واحد". يحاول الحياة، مجرد أن يحيا، يبحث أو يتساءل: "كل الرياح تمرّ على هذا الخنجر المُغمد في ظهري... فتحرّكه ويؤلمني، وأصرخ". في مجموعته الجديدة "استعارة مكان" يعود الى الماضي محميّاً بالاستعارة، ماضي جيلٍ سمّي جيل الهزيمة أو النكسة، يجوس في مشاعره الآن، في استعارة المكان، يفتح الذكريات، ينقل الماضي الى الحاضر لاختبار الألم، أو لاحتمال تقليبه على وجوهه الأخرى: الأمل. تضمّ المجموعة عشرين قصيدة، طويلة وقصيرة، كُتبت في أوقات متفاوتة، هي توثيق لخطّ حياة شاعر وصلت به الكلمة الى اللحظة الراهنة، والحياة تحثّ الخطى في مجرى تواطئها مع الخسارات الى أول السطر: "إِكراماً لِيتُمٍ قديمٍ يفتح الله لي صفحةً بيضاء". تنمو قصيدة عادل محمود في العلاقة بين الصوت الداخلي القديم، الآتي من الهزيمة، وتتشكّل في الواقع عبر تداعيات تُحوّل الواقع الى فكرة، والفكرة الى صوغٍ خاصّ بالشاعر، فيه الرمز، وفيه الصمت. والصمت موقف من الحياة من داخلها، وهو الشكل في هامته كلها لأن المضمون معجون بشكل هذا الشعر الذي يفرد صدى الحياة. يبتعد الشاعر عن شكلانية الرّمز، مشتقّاً منه في كل مرة إيقاع حياة وحنيناً، وحالة جمعية غالباً، لكنها تحضر في القصيدة بضمير المتكلم، فتتجوهر بهذا الحضور الوجداني العالي، غنية، معافاة، متدلية كشجرة صفصاف. تتطور قصيدة عادل محمود من داخلها، والداخل سطحها وعمقها في آن. يحشد الشاعر عناصر النشيد مضافة الى خيط درامي خفي، كي لا يكون القول الشعري مجرد بوح في خط واحد: "يا بلادنا يا أيتها المخمل البريُّ ويا أيتها الصلبة مثل شاهدة القبر أنتِ مثل ناي طويل طويل". وللشعرية مكان الصدارة في قصائد الشاعر، الذي يبدو أنه عمل بدأب وصبر على تنقية صوته، خصوصاً أنه ينتمي الى جيلٍ تعددت أصواته الشعرية ولغاته بين الخطابة والإيديولوجيا والمباشرة والشعرية. والإشارات الواقعية في شعر عادل محمود تبقى رموزاً لواقع آني، لكن، بعيداً من مباشرة اللحظة والقسوة. فيُسقط الشعر على قسوة الواقع هالة استقامةٍ وتسامح، ويتميّز الشاعر في بعده أو اقترابه من الذاتية، كمن يحب وطناً لا ذاته. تتنفس قصيدة عادل محمود الطويلة نرجسيّتها، بخروج المقطع المُغلق من الفكرة الى نقطة شاهقة في ذاكرة الذات، شاهقة في الطبيعة، لتعود محمّلة بالهواء الكثيف والطير. تشحن القصيدة بالتعب، والشعر بالاستقرار، والاستقرار بالتفرّد، تفرّد ترتيب الذاكرة البصرية في جغرافيا الاستعارة. حالات شعرية تكسر الفكرة معها حواجزها اللغوية، وتعيد للبراري أصولها الوحشية ولكن، أكثر رحمة: "الموت لا يؤرّق الموتى المقابر ملأى بالأجساد لا بالأسئلة". كأن الشاعر يسجل سيرة حياة باللّوز والقبر والحب والصخرة والمرأة والنسيان والنعاس. يغادر قصيدته بعد رصد تاريخها، وكأنما متعجّلاً لا يتلفّت ثانية إليها، لسبب، ربما، طارئ، قد يكون مجرد لا جدوى الوقت الضائع. مستسلماً للاستمرار، لا يحاول صنع مستقبل القصيدة، مسجّلاً متغيراتٍ نحن القراء من يحكم على خلاصتها. وبين السياسة والحب يتأرجح في شعره فينهزمُ في الاثنين معاً، إلا من مباغتة تكاد تكتب حروفها برائحة الماء: "الرجل النحيل ذو اللحية الشائبة ذو الهدوء الثابت ذو الابتسامة أحياناً على كرسي المساء في شرفته تحرّك فجأة قلبه وارتمى على أصيص النعناع المجاور". إن تعدد الأصوات داخل المجموعة، يدفع القصيدة الى أن تمتدّ بين راهنيّتها والتاريخ، في أزمة بحث يحياها الشاعر، ومن دون انفجارات كبيرة يحفر صوته في مشهدنا الشعري. ولا ملكية محددة للقصائد، ثمة مصير يصاغ في عزلة الشعر متقدّماً من الرأي العام، وهو مجرّد مصير شاهد فلا يملك الشاعر سوى الصدى في الاستعارة. عشرون قصيدة في المجموعة يترامى في فضائها حفيف روح صاحبها كحد فاصل بين قصيدة وقصيدة، وصمت وصمت. والشاعر هنا الرجل الوحيد يزدحم به الشارع، فهو صورة هذا الألم: مكان قصيّ في الروح يتحوّل فيه الشعر الى تيه بين الحقيقة ووخز الأماني.