على سطح منزلنا القديم، في الحارة الفوقا المطلة على العين، نشأت اول صداقة بيني وبين كائن حي في هذا العالم، هو الكلب الافرنجي الابيض الذي اتاني به والدي هدية لمناسبة عيد ميلادي الرابع، وذلك بعد الحاح طويل وجولات من التوسل والبكاء. لم يسمح لي بالاحتفاء بصديقي الاول على الفور، بل وضعه في غرفة على السطح، كان يستعملها كمخزن لمنحوتاته المحطمة، ليغلق عليه ويحبسه لمدة ثلاثة ايام، بناء على توصية من احد معارفه، تقول ان ذلك الحجز ضروري، كي يألف الكلب المكان، ولئلا يهرب فور افلاته من رسنه في ما بعد. كنت انتظر لحظات انشغال والدي في محترفه الفني، لانتهز الفرصة، وأخف متلهفاً، مختصراً الدرجات القليلة التي تؤدي الى السطح، لرؤية كلبي. استرق النظر اليه من خلال فتحة في باب الغرفة الخشبي العتيق، متمتماً له بكلمات قليلة سائلاً اياه عن حاله. وكنت اعتقد انه يجيبني بالإيماءات التي كان يؤديها برأسه وبنباحه الحاد العميق، لاعود بعدها لاهثاً الى غرفتي خشية العقاب، حالماً ان اتمكن ولو للحظة من لمس وبره الابيض الطويل وتحسس جسده المنتفخ ككومة قطن. في اليوم الرابع اخرج الوالد الكلب من محبسه، وسمح لي بانزاله الى فناء الدار شرط عدم ادخاله الى الغرف، وبالاخص غرفة نومي. اطلقت عليه اسم "بوني" وصرت اقضي اوقاتي كل صباح برفقته على الشرفة المليئة بأوعية الزهور والنباتات الخضر، فاكتب فروض عطلتي الصيفية، واقطف الازهار البيضاء من الياسمينة الكبيرة، المعرشة في احد الاحواض لأشكها ببعضها البعض، صانعاً منها عقدين جميلين، ألف احدهما حول عنقي، والآخر حول عنق "بوني" الذي سرعان ما كان يتلفه بسبب حركته الدائمة، واصبحت اتوسل الى أمي ان تأتيني بفطوري لاتناوله بالقرب من "بوني"، فيما هو يأكل بقايا الطعام، وأطراف الدجاج المسلوقة. سرعان ما تعمقت الالفة بيني وبينه، بات يلازمني كظلي كيفما خطوت، يتلاعب بذنبه يمنة ويسرة، وكثيراً ما كانت خطاي تتعثر بسببه، يحتك برجلي ذهاباً واياباً عندما يشاهد أولاد الحي متجمعين على السطوح المقابلة، ينظرون اليّ وإليه بدهشة ما زلت اجهل سببها الى اليوم. لم املّ منه لحظة، لدرجة ان كنت اخاف حلول المساء، او قدوم الزوار لدارنا، لأنه في الحال الاولى كان والدي يلزمني باعادة "بوني" الى غرفته، ويأمرني بالدخول الى المنزل للاستحمام وتناول طعام العشاء، وفي الثانية، يطلب مني الجلوس مع زواره الكبار، يقدمني اليهم، طالباً مني أن أريهم رسوماتي، وأتلو امامهم ما احفظه من اشعار. بعد فترة، شرعنا ببناء منزل جديد للعائلة، في ارض نملكها على تلة مليئة باشجار التين والعنب والاجاص البري والزيتون، تسمى "ظهر الجديد"، وهذا ما أتاح لي فرصة الخروج من المنزل برفقة "بوني" للمرة الاولى. كنت اتقاسم واياه المقعد الخلفي للسيارة، نتنافس على مد رأسينا من النافذة ليلفحنا الهواء، وكثيرا ما كان يفاجئني بلعقة على وجهي من لسانه الزهري، فارتد الى الداخل، ليتفرد وحده بها، يقفز منها لمجرد وصولنا الورشة، فألحق به، ونبدأ بالجري والتسابق بين الاشجار، نتعفر بالتراب والرمل، غير مكترثين لصراخ امي ولتنبيهاتها المتواصلة تطلقها وهي تدور والوالد حول المنزل، يتفقدان ارجاءه واقسامه، ويقومان بريّ احجار الباطون، ومساحات الاسمنت الحديثة البناء لئلا تتشقق، حتى يحل الغروب فيجلسان في السيارة، ليتأملا مشهد الشمس وهي تغطس لتبترد في البحر البعيد، من خلف اوراق واغصان الزيتون الرمادية الخضر، ويناديانني لاشاركهما متعة المشهد ورومانسيته، الا اني كنت أوثر الركض واللهاث وراء "بوني"، في محاولة لكسب بضع دقائق من اللهو، قبل ان يحين وقت العودة الى المنزل، بعد ان يكون الليل قد باشر اسدال ستائره، على ما حولنا من اشجار وتلال. فور وصولنا المنزل، كنا نعيد "بوني" الى غرفته، نوصد عليه الباب، بعد ان نضع له ما تيسر من بقايا الطعام، ننزل بعدها فناء الدار، فتدخلني امي الحمّام، لآخذ دوشاً ساخناً، ينظف ما علق بشعري وبجسدي من رمل وقش وتراب ورائحة كلاب، لاجلس بعدها بالقرب من الاهل، امام الشاشة الصغيرة واتناول طعام لاعشاء. انتهاء المشوار على هذا النحو لم يرق مرة ل"بوني"، فهو لا يمل من العبث واللعب، يرغب دائماً في المزيد، لا يهمه ان كان الليل قد حل، فكان يعلن احتجاجه على انتهاء النهار، بنباح مستمر لا ينقطع، يرتفع حيناً وينخفض حيناً آخر، ممتزجاً بزمجرة غريبة متواصلة تستمر لساعات وساعات، حتى بعد ان اكون قد دخلت السرير، ليلامس النوم جفوني، وتمر صور النهار الشيقة في مخيلتي، وتتلاعبني امواج الوعي والحلم، ليغلبني الخدر، واغرق في سبات عميق. صار نباح "بوني" الليلي مصدر ازعاج لسكان الحي،الذين باتوا يقرعون بابنا منتصف الليل، مطالبين باسكاته، كونه يقلق راحتهم، وكان بعضهم الآخر يأتي في الصباح لابلاغنا شكواه، لكن، كيف لنا ان نمنع كلباً من النباح؟ وهل من وسيلة لافهامه ان نباحه يزعج الناس النيام؟ بعد شكاوى عدة ومتواصلة، حاولنا ان نضع ل"بوني" كل مساء كميات كبيرة من الطعام، ليتلهى بها، علها تصرفه عن اطلاق سمفونيات النباح، الا ان الفكرة لم تنجح لاكثر من يومين، ولم تنطل الحيلة على الكلب، الذي سرعان ما بات يأكل حاجته من الطعام، ليهمل الباقي، ويعود مطلقاً نباحه، مقلقاً الجيران النيام، الذين لم يستطيعوا التأقلم مع نباحه، ويئسوا من مطالبة والدي باسكاته، وربما قرروا التخلص منه على طريقتهم. استيقظت ذات صباح. صعدت لتفقد "بوني" فوجدته جثة هامدة، متيبسة، قلبته، تحسسته، لم تبد عليه آثار دماء، لقد دس احدهم له السم في الطعام! فتناوله المسكين، ظناً منه انهم يعطفون عليه، ويتقربون منه! فهو كان غاية في النقاء والبراءة، مثل لونه الابيض، لا يعرف ان لبني البشر نوايا سيئة، وانهم قد يفعلون اي شيء، حتى القتل، لتحقيق غاياتهم، ومآربهم، وللتخلص مما يزعجهم! ذهب "بوني" ضحية نباحه، الذي كان يطلقه ليؤنس نفسه في وحشته، ووحدته الليلية. ايقظت والدي من نومه، اخبرته ان صديقي الكلب قد مات، لم استطع ان اتمالك نفسي، واحبس دموعي، فانفجرت باكياً، متذكراً اللحظات الحلوة، التي امضيتها برفقته. قررنا دفنه بالقرب من منزلنا الجديد، فوضعناه في صندوق خشبي، وحملناه سوية الى السيارة، لننقله في مشوار نهائي الى مثواه الاخير. لم يلعق "بوني" خدي هذه المرة، ولم ينافسني على الخروج من النافذة طوال الطريق. تحت زيتونة وارفة الظلال، الى جانب مدخل المنزل، حفرنا حفرة صغيرة اودعناه اياها، وطمرناه بالتراب، بعد ان غرسنا بضع بصيلات من النرجس البري، علها تزهر فوق قبره مرة كل سنة، تستمد حياتها من بقاياه، تكون مثله بيضاء، عابقة بالعطر، وبالنقاء والبراءة. ورحلنا صامتين.