موسكو صارت محجاً للساسة الإسرائيليين من الكتلتين الحاكمة والمعارضة، وفي غضون أسبوعين زارها اثنان من رؤساء الحكومات السابقين، هما شمعون بيريز وبنيامين نتانياهو، ورئيس حزب "إسرائيل بعليا" ناتان شارانسكي، ومنافسه على زعامة اليهود الوافدين من روسيا رومان برونفمان، ولا يستبعد أن تستضيف العاصمة الروسية قريباً رئيس الوزراء الحالي ايهود باراك. هذا التحرك يستهدف أغراضاً منها المعلن المقروء، ومنها المستور. فالإسرائيليون يسعون إلى تطويق المساعي الروسية الرامية إلى انشاء "نظام الرعاية التعددية" الذي يشارك فيه، إلى جانب الولاياتالمتحدةوروسيا، كل من الاتحاد الأوروبي ومصر وربما الأردن. ولا تختلف كتلتا "ليكود" و"العمل" في رفضهما كسر الاحتكار الأميركي الذي يؤمّن انحيازاً، بل انصياعاً كاملاً للإسرائيليين. وإلى ذلك، باتت الانتخابات في إسرائيل وشيكة وتحس الأطراف المتصارعة بأهمية "الجسر الروسي" الذي قد يكفل أصوات شريحة واسعة من الناخبين الآتين من دول الاتحاد السوفياتي السابق. لكن هناك بعداً آخر للتحرك الإسرائيلي يتمثل في السعي إلى انشاء كتلة دولية لمواجهة ما يسمى "الخطر الإسلامي". وأثناء حوار أجري معه في موسكو، ألقى افيغدور ليبرمان رئيس حزب "بيتنا إسرائيل" الذي يضم يهود روسيا، الضوء على مخطط قال إنه يرمي إلى إقامة ائتلاف يضم إسرائيل وتركيا وروسيا والهند، وربما الصين، باعتبار أن هذه الدول تواجه "أممية أصولية إسلامية" تستدعي مواجهتها انشاء تحالف واسع. وبتوارد خواطر، أو بتنسيق مبيت، دعا إلى مشروع مماثل ساسة روس منهم رئيس الوزراء السابق يفغيني بريماكوف، الذي تحدث عن "مثلث تطرف" رؤوسه في أفغانستان وكوسوفو والقوقاز، داعياً إلى استنفار جهود عالمية لمواجهته. ويعتقد محللون على صلة وثيقة ببريماكوف أنه يرى في نتانياهو الرجل الأكثر "كفاءة" للانتماء إلى "دولية" مناوئة لما يوصف بالارهاب. وإذا كان بريماكوف يحاول أن يضع حدوداً غالباً ما تكون مائعة بين الارهاب والاصولية، ويتحدث عن "اعتدال وتطرف في الإسلام"، فإن الإعلام الروسي الموجه من مراكز يهودية، يستثمر ادعاءات "الخطر الإسلامي" ليرش الملح على الجرح الشيشاني، ويؤلب الشارع وصنّاع القرار ضد العرب، بدعوى مساندتهم حركات انفصالية تريد تمزيق روسيا، واختراق خاصرتها الضعيفة. ازاء ذلك كله، يقف العرب حائرين أو مرتبكين، ولم يفلحوا في ايجاد صيغة تكفل دعم القضايا العادلة من دون التفريط بالشركاء والحلفاء. فمن قال إن مساندة الاويغور يجب أن تعني قطع العلاقات مع الصين التي وقفت دوماً إلى جانب العرب، ولماذا ينبغي أن تقترن مساندة أهالي كشمير باشهار العداء للهند، التي دأبت على اتباع سياسة منصفة حيال النزاع في الشرق الأوسط؟ وما المانع في مؤازرة القوى الشيشانية المعتدلة المطالبة بالحقوق القومية واستنكار انتهاكات حقوق الإنسان، مع التأكيد في الوقت ذاته على احترام مبدأ وحدة الأراضي، في ضوء فهم استراتيجي لحقيقة أن عملية التمزق في جنوبروسيا تضعف قطباً نووياً، قادراً، الآن أو لاحقاً، على الحد جزئياً من العنجهية الأميركية، إضافة إلى أن التفكك في القوقاز سيصبح كرة لهب تنداح نحو الشرق الأوسط. الإسرائيليون يتصرفون وفق منطق "ازرع ولا تقطع"، وحققوا اختراقات مهمة على المحورين الهندي والصيني، بتصدير التكنولوجيا الحساسة إلى البلدين، كما سعوا إلى كسب روسيا من دون أن يفقدوا تحالفهم الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة. بل إن إسرائيل تمكنت من "غزو" جمهوريات آسيا الوسطى، واقنعت غالبية قادتها بالعدول عن المشاركة في قمة الدوحة، بينما العرب "لم يكتشفوا" حتى الآن هذه البقعة الإسلامية الواسعة.