في كتابه "ظهر الإسلام" الجزء الثالث يذكر أحمد أمين عن موقعة بواتييه فيقول "كانت موقعة بواتييه موقعة فاصلة بين العرب والمسلمين في الأندلس والفرنجة في أوروبا. إذ لولا هزيمة المسلمين لتقدموا حتى فتحوا أوروبا كلها واستفاد الفاتحون مما يرون من أخلاق وعادات وفنون، ولاستفاد الأوروبيون من دين العرب ولغتهم وعلمهم". والسؤال: هل أنهت معركة بواتييه الوجود العربي في فرنسا؟ وهل انحسر التأثير العربي عن تلك المناطق الأوروبية؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، يحسن بنا أن نعود الى ما ذكره غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" بأن انتصار شارل مارتل لم تكن له أهمية كبرى كما يذهب بعض المؤرخين، بل إن مارتل أخفق تماماً في إجلاء العرب عن المدن التي فتحوها، بل تقهقر أمامهم تاركاً لهم ما فتحوه. ومعنى هذا الكلام استمرار بقاء العرب في فرنسا، ولعلّ ما سنعرضه هنا من شواهد تاريخية تؤكد حقيقة الوجود العربي الإسلامي في فرنسا بعد تلك الموقعة الشهيرة. وبالعودة الى أحداث الأندلس نشير الى تولي الوالي عقبة بن الحجاج أمور الأندلس بعد عبدالملك ونجح الوالي في تثبيت أقدام العرب في مقاطعة بروفانس. كما استولى على كثير من المدن في ناحية الدوفينية، وأعاد فتح إقليم بورجونيا واستعاد مدينة ليون ووصل النفوذ العربي الى بيدمنت في شمالي إيطاليا، واسترد العرب معظم مدن غالة فرنسا، كما أثار مخاوف شارل مارتل فرأى أن يعاود الصراع مع العرب، ولكنه آثر في هذه المرة عدم الخروج بنفسه لقتال العرب، بل اكتفى أن بعث أخاهُ شلدبراند على رأس جبيش كبير للاستيلاء على أربونة، وحين أخفق في مهمته اضطر شارل الى الخروج، وحاصر أربونة طويلاً واستبسل العرب في الدفاع عنها فاضطر الى فك الحصار والانسحاب شمالاً. وشعر مارتل بالحنق والسخط، فلم يجد متنفساً لغضبه سوى أن يُنزِل سخطه على أهالي غالة الذين اتخذوا منه موقفاً سلبياً وساعدوا الجيش العربي. يتحدث المؤرخ رينو عن تفضيل أهالي غالة الحكم العربي على حكم الفرنجة، فيذكر أن إهاليها كانوا احتفظوا بالحضارة الرومانية ولذا نظروا الى الفرنجة على أنهم قوم غير متحضرين قد احتفظوا بالجلافة الجرمانية. وحنق رجال الدين على مارتل لأنه استولى على مملتكات الكنائس والأديرة، وكان العرب تركوها لهم. واستمرت هذه الأخطاء في عهد بين وشرلمان أيضاً، وتتحدث المصادر المسيحية عن تسامح الوالي العربي عقبة بن الحجاج واحترامه لرجال الدين المسيحي والكنائس. ويشار إلى أن النفوذ العربي لم يشمل كل المناطق الفرنسية، إذ لعبت عدة عوامل دوراً كبيراً في عدم امتداده إذ اقتصرت محاولات العبور على الأبواب والممرات الشرقية، ولم يهتموا بالجهات الغربية التي كان يسكنها أقوام جَبَليّون - أشداء ظلوا شوكة دائمة في جنب المسلمين. وكان من الضروري فتح هذه المناطق في وقت كانت فيه الدولة الكارولنجية في دور النشأة والقوة وتمتلك جيشاً قوياً، كما كانت فرنسا تبعد كثيراً عن العاصمة الأموية في دمشق مما لا يتيح الفرصة للقادة العرب للاستفادة من توجيهات الخليفة ورجاله ومما يبعثونه لهم من جنود وعتاد. وكانت الفتوح تهدف الى استقرارهم فيها ولم تكن غزواتهم، كما تصورها بعض المصادر الأوروبية غارات سريعة بقصد الحصول على الغنائم. ولو تأملنا جهود السمح بن مالك وعنبة بن سحيم وعبدالرحمن الغافقي وعبدالملك بن قطن لأدركنا أنهم كانوا يهدفون الى فتح منظم غايته إدخال فرنسا في رحاب الدولة العربية الإسلامية. وكانت تضحياتهم في سبيلها من أغلى ما ضحوا به في فتوحاتهم. وعن استمرار فتح العرب في فرنسا نعود الى المؤرخ لوبون إذ يقول "ولم يلبث العرب المسلمون بعد أن أفاقوا من تلك الضربة التي أصابهم بها شارل مارتل، أن اخذوا يستردون مراكزهم السابقة، وقد أقاموا بفرنسا قرنين بعد ذلك 200 سنة، وقد سلم حاكم مرسيليا مقاطعة بروفانس إليهم في سنة 737م، واستولوا على الآرل ودخلوا مقاطعة سان تروبيز في سنة 889م ودامت إقامتهم بمقاطعة البروفانس حتى نهاية القرن العاشر من الميلاد، وأوغلوا في مقاطعة الغالة وسويسرا سنة 935م، وروى بعض المؤرخين أنهم بلغوا مدينة ميس. ويضيف لوبون: وتُثبت إقامة العرب في فرنسا مدة تزيد على قرنين بعد شارل مارتل. فالنصر الذي أحرزه في بواتييه لم يكن مهماً كما زعم المؤرخون، ولم يستطع مارتل أن يطرد العرب من أية مدينة احتلوها عسكرياً، بل انه اضطر الى التقهقر أمامهم تاركاً لهم ما استولوا عليه من البلدان، وكانت النتيجة المهمة الوحيدة التي أسفر عنها انتصاره أنه جعل العرب أقلّ جرأة على غزو شمال فرنسا. ونتيجة مثل هذه، وإن كانت مفيدة، لم تكف لتضخيم أهمية انتصار هذا القائد التاريخي. وتوالت غارات العرب البحرية بسرعة متزايدة نهاية القرن التاسع الميلادي. ففي عام 888م أسس عرب الأندلس قواعد أكثر ثباتاً في فراكسينت على ساحل بروفانس، إضافة الى قواعدهم شبه الدائمة في كامرج وماغلون. أما في غرب المتوسط، فقد أغار عرب الأندلس على السواحل الكارولنجية في عام 838م فبعثوا بأسطول الى مرسيليا. وفي عام 848م قبلت جزر البليار سيادة الأمويين بالأندلس، وتعهدت بعدم التعرض لسفن المسلمين... وضعفت المقاومة الإفرنجية على طول ساحل فرنساالجنوبي، ثم أنشأ العرب المسلمون قواعد عربية دائمة على هذا الساحل وخصوصاً في جزيرة كامرج عند مصب نهر الرون. ومن تلك القواعد شن العرب غارات برية على الداخل مثلما فعلوا في ما مضى عندما نزلوا باري ومونت جارليانو. وتعرض إقليم بروفانس وحوض الرون الأدنى لغاراتهم المستمرة طوال 84 عاماً، بل إنهم انتشروا في جبال الألب وتحكموا في الممرات الموصلة بين فرنساوإيطاليا فيما بين مونت سنى والبحر المتوسط، وجعلوا السفر عبر تلك الطرق الى وادي البو عسيراً جداً، إن لم يكن مستحيلاً. وبلغ هذا النشاط ذروته بين سنتي 891 و894م عندما خرجت جماعة من المغامرين العرب الأندلسيين من رجال البحرية على ظهر سفينة اتجهت بهم الى ساحل بروفانس جنوبفرنسا، ونزلوا في خليج سان تروبيز على الشاطئ وتحصنوا في جبل فراكسنتوم المطل على الخليج في الموضع المعروف اليوم باسم جارد فرينيه، وجعل هؤلاء العرب من قاعدتهم مركزاً للتوغل في قلب فرنسا. وكان يملك بلاد فرنسا حين ظهر فيها العرب في القرن الثامن امراء يُعرَفون بالملوك الكُسالى وكانت تأكلها الفوضى الإقطاعية واستولى العرب بالتدريج على نصف فرنسا الحالية الذي يبدأ من ضفاف نهر اللوار وينتهي الى مقاطعة فرنش كونته. وترك العرب أثراً عميقاً في اللغة والدم. واستقر كثير من العرب في الأراضي القريبة من المدن واشتغلوا بالزراعة والصناعة، وأدخلوا صناعة السجاجيد الى أبوسون، وعلموا الأهالي كثيراً من أساليب الزراعة وامتزجوا بالسكان، وأصبح للعرب أحفاد في أماكن كثيرة من فرنسا. وننهي هذه المقالة التي تثبت بقاء العرب في فرنسا بعد معركة بواتييه بما قاله غاستون دومرج أحد رؤساء الجمهورية الفرنسية السابقين عن الحكم العربي في فرنسا فيقول: "إن العرب كانوا أرحم الفاتحين وأكثر الأمم الناهضة القوية شهامة وعدلاً، وهذه العوامل النبيلة قد ساعدت على انتشار سلطانهم وخضوع الأمم لحكمهم العادل الشريف". * أستاذ في الجامعة اللبنانية.