بعد مرور اكثر من نصف قرن على حصول معظم البلدان العربية على استقلالها وتحكمها بادراة شؤونها، وبعد مرور عقد على انتهاء الحرب الباردة التي ترافقت مع التحول في عناصر امتلاك القوة على صعيد العلاقات الدولية، وعلى رغم المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ما زالت تعانيها البلدان العربية، ما زال معظم الخطابات السياسية العربية التي تفسر الاحوال السائدة أسيرة مفاهيمها التقليدية، الثنائية والضدية، لقضايا الصراع الدولي وأدواته وغاياته. ففي الخطابات السائدة ثمة تفسير لكل موقف او حركة بعقلية المؤامرة او الخطة خارجية التي تقودها الامبريالية العالمية او الصهيونية او كلاهما معاً، للحؤول دون التقدم والوحدة والتحرر في المنطقة العربية. وفي خطاباتها الحماسية التثويرية، تبالغ الخطابات السائدة في النزعة الارادوية للتغيير. فتقفز فوق الواقع ومستوى التطور. وفي الحالين تعتبر نفسها وصية على المجتمع، وتسعى الى حرق المراحل، من غير اعتبار لمستوى التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي ومستوى المشاركة السياسية في البلدان العربية، في نزعة ثقافية انقلابية وعسكرتارية واضحة. ومعظم الخطابات السياسية الانشائية والعاطفية الصاخبة لم تفد شيئاً في فهم الواقع العربي المتردي، بل اشاعت قدراً عالياً من الاحباط والانفصام في الوعي العربي، فضلاً عن انها لم تقدم شيئاً في ادراك اسباب استمرار البنى والعلاقات والمفاهيم التي تنتج هذا الواقع وذاك التردي. فأحالت العجز والتخلف وضعف الارادة الى العامل الخارجي محاولة بذلك حجب حقيقة اساسية وهي ان مكمن الداء والدواء، في آن معاً، انما هو في تفحص وتغيير وتحديث الواقع العربي ذاته، بمؤسساته وعلاقاته ومفاهيمه، طبعاً من دون اغفال دور العامل الخارجي وتحديد مكانته في هذا الموضوع. وفي الجهة المقابلة فإن الخطابات العربية الجادة التي تعالج الواقع العربي انطلاقاً من بناه وعلاقاته ومفاهيمه، تواجه مشكلة تتزايد حدتها، ليس سببها انتشار الأمية، وضعف الميل للمطالعة، وانتشار "الثقافة التلفزيونية"، في البلدان العربية، فحسب، وانما حداثة التفكير السياسي في هذه البلدان، وضعف المؤسسات والتفاعلات والعلاقات السياسية، وانصراف الناس عن الاهتمام بالشأن العام. ومن ملاحظة الخطابات السياسية التي تنتجها وسائل الاعلام، وحتى تلك التي تنتجها الندوات والمراكز البحثية، يمكن ملاحظة تكرار الحديث عن ضرورة التكامل والوحدة العربية لمواجهة العدو الصهيوني، من ناحية، او لمواجهة الشرق اوسطية والمتوسطية والعولمة، من ناحية ثانية. وغالباً ما تتجه الخطابات السائدة نحو ادانة ورفض هذه المسارات او المشاريع باعتبارها مفروضة من الخارج للسيطرة على العرب، والحاقهم سياسياً واقتصادياً، وتأييد السيطرة الصهيونية في المنطقة. والسؤال انما هو: لماذا لم يستطع العرب ايجاد ادنى اشكال التوحد حتى الآن؟ وهل رغبوا في ذلك فعلاً؟ في وقت نعرف فيه ان تنقل المواطنين بين البلدان العربية اصعب بكثير من تنقلهم بين بلدان اوروبا، وحتى اصعب بكثير من تنقل المواطنين الاجانب في البلدان العربية. فمستوى التبادل التجاري بين الاقطار العربية لا يتجاوز 8-10 في المئة من حجم التجارة العربية. اما الاستثمارات العربية التي تبلغ حوالى ألف بليون دولار فلا يستثمر منها في البلدان العربية سوى بلايين قليلة. والتبادل الثقافي صحف ومجلات وكتب هو في ادنى احواله، ويكاد لا يوجد تنسيق في اعداد الكتب المدرسية الخاصة حتى بتلاميذ المرحلة الاساسية. والخطابات السائدة لا تتحدث عن مشروعية وضرورة مشروعات التكامل والتنسيق والوحدة بين الاقطار العربية الا باعتبارها ضرورة من ضرورات الصراع والمواجهة، في حين ان هذه المشروعات هي ضرورية لهذه الاقطار من اجل اطلاق عمليات التحديث وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. اي انها ضرورية للمواطنين وللدول، في آن معاً، بمعنى انها ضرورية في وجود الصراع مع اسرائىل من دونه ايضاً، تماماً مثلما هي ضرورية في ظروف العولمة او من دونها. وضرورة تحديث النظام السياسي العربي هي حجر الاساس الذي ينبغي البناء عليه، على الصعيدين الوطني والعربي. فالعالم العربي الذي تسود فيه دولة السلطة ما زال في حاجة الى الدولة الحديثة، دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، وغيرها من مستلزمات المشاركة والديموقراطية. فمن غير تحديث النظام السياسي يتعذر الحديث عن مشروعات تنسيق او تكامل او توحيد عربية، لأن هذه المشروعات ما هي الا محصلة للتطورات السياسية في البلدان العربية ذاتها اولاً. ومعظم الخطابات السائدة رأت في العولمة بعدها السلبي وإطارها السياسي، اي نظرت اليها من زاوية احادية وجزئية، في حين ان مسارات العولمة ليست مجرد محصلة ارادة سياسية، بقدر ما انها مرحلة من مراحل تطور البشرية، على الصعيد العالمي. وهي بذلك مثلها مثل اية مرحلة تطور تحتمل سلبيات للبعض وايجابيات للبعض الآخر. كما انها ظاهرة اقتصادية وثقافية وسياسية معقدة ومتداخلة، بمعنى انها ليست نتاجاً لمسارات سياسية ذاتية بقدر ما هي نتاج لمسارات موضوعية ناجمة عن تطور العلاقات الاقتصادية الدولية ووسائل الاتصال والمعلوماتية. وفي كل الاحوال فإن التفكير العربي في العولمة مثلاً يحتاج الى مراجعة وتطوير، ليتمكن من انتاج الوعي المناسب لفهم هذه المرحلة التاريخية على اساس من التفريق بين العولمة بوصفها ظاهرة موضوعية، وبين "الأمركة" المتمثلة في محاولات الولاياتالمتحدة الأميركية تعميم خاصيتها، بوصفها تمتلك قدراً اكبر من غيرها من ادوات العولمة وبوصفها المساهم الأكبر فيها. * كاتب فلسطيني.