السيد ياسين الزمن العربي والمستقبل العالمي دار المستقبل العربي، القاهرة 1998 375 صفحة منذ تصدع الاتحاد السوفياتي ونهاية نظام الحرب الباردة وما تلاه من تحولات في البيئة الدولية، والخبراء والمحللون والمؤرخون في العالم مشغولون برصد وتفسير هذا الذي حدث والبحث عن معالم النظام الجديد وسماته والقوى التي ستشكله. ومن الاسهامات العربية الجادة في هذا البحث، المشروع الفكري الذي يتعهده المفكر العربي الاستاذ السيد ياسين في محاولة لفهم "نص العالم المعقد" والذي تتداخل فيه بطريقة جدلية القوى السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية، وقد بدت أولى ثمار هذا المشروع في كتابه "الوعي التاريخي والثورة الكونية - حوار الحضارات في عالم متغير"، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية - الاهرام 1995، والذي حاول فيه تطبيق منهج التحليل الثقافي في قراءة وتفسير خريطة المجتمع الدولي الجديد، والمعركة الايديولوجية التي تدور حوله، والقضايا الفكرية التي ستشغله. أما مساهمته الجديدة، فهي في هذا الكتاب الذي نعرض له. ونتصور بداية، ان فضيلة هذا العمل الأخير هو قراءة للتحولات في بنية العالم السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية من حيث تداخلها وتأثيرها على الواقع العربي ومستقبله وما يواجهه من أزمات وتحديات كبرى سوف تحدد استجابته لها وتكيفه معها، بل ومساهمته في توجيهها. وينطلق منهج ياسين من مقدمة أو تساؤل أساسي هو "ما اذا كان ممكنا الحديث عن المستقبل العربي بغير أن نضع في اعتبارنا مستقبل المجتمع العالمي"، بل إنه يذهب الى أن تحديات المستقبل العربي هي تحديات العالم، ويجمعها في ست مشاكل رئيسية هي: مخاطر الآحادية الفكرية، وآفاق التطور السياسي، ومشكلات سياسات الثقافة، والتعامل مع الثورة العلمية والتكنولوجية، والتجديد الاقتصادي، ثم العلاقة بين الأنا والآخر، أو بعبارة أخرى مشكلة حوار الحضارات. ومثلما تثير هذه التحديات اسئلة مشروعة بالنسبة الى المجتمع العالمي، فإنها تثير الاسئلة نفسها بالنسبة الى المجتمع العربي خصوصاً في ما يتعلق بالتجديد الفكري. غير أنه اذا كان المجتمع العربي والعالم يلتقيان عند التحديات نفسها، إلا أنهما يفترقان بالنسبة إلى إمكانات التجديد، فيما تبدو هذه الامكانات على المستوى العالمي أشبه بالآفاق المفتوحة حيث لا ضفافا للتقدم في المجتمعات الغربية، وحيث كل الفرص الاجتماعية والثقافية لممارسة الإبداع. اما الانفتاح الفكري والقدرة على التجديد في المجتمع العربي فأشبه بالنسق المغلق على المستوى الفكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، وبشكل لن يستطيع معه هذا المجتمع من مواجهة تحديات القرن المقبل، وهو المأزق الذي يستخلص منه الكاتب "اننا كمجتمع عربي في حاجة الى ثورة فكرية تصالح القديم وتغرس بذور الجديد". ونظرا الى التداخل الذي يقيمه الكتاب بين التحولات التي تجري في العالم وما تثيره من مشاكل وتحديات واسئلة، وبين ما يواجهه الواقع والمستقبل العربي، فقد كان طبيعياً ان يعطي اهتماما مركزيا لظاهرة العولمة وهو اهتمام يتسلل عبر كل فصول الكتاب، فضلا عن الفصل الثاني الذي خصص لهذه الظاهرة سواء في تعريفاتها ومفهومها او في تجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالاتية، والمعركة الايديولوجية السياسية والثقافية التي تدور حولها. وينطلق الكاتب في هذا الربط من افتراض اساسي، وهو أننا "لسنا بعيدين في العالم العربي عن تأثيرات الكونية بتجلياتها السياسية التي تتصل بسيادة مبادئ الليبرالية السياسية بما تنطوي عليه من حرية فكرية وتعددية سياسية. والاقتصادية وما تمثله فيها حرية السوق الذي اصبح هو المبدأ السائد في الاقتصاد العالمي. والثقافية التي تدعو الى صياغة ثقافة عالمية". وبعد رصده الاتجاهات والمواقف التي بدت في العالم العربي من العولمة والتي تدور حول: رفضها بالكامل او قبولها بغير تحفظات او الاتجاهات النقدية التي تحاول فهم القوانين الحاكمة للعولمة، يستخلص الكاتب اننا ما زلنا في غمار المناقشات الايديولوجية الرافضة لها بغير دراسة خاصة لقوانينها او التيارات التي ترفضها دون تحفظ، إلا أنه يتبين ما يبشر بظهور دراسات جادة رصينة للعولمة وتأثيراتها على العالم العربي والفهم المتعمق لها، وهو الفهم الذي يمكن ان يقود الى صياغة استراتيجية عربية قومية لا للمواجهة الرافضة رفضاً مطلقا، وانما للتفاعل الخلاق معها. غير ان الكاتب يعلق هذا على شرط او سؤال رئيسي وهو: "هل تسمح الارادة السياسية العربية بهذا؟". وثمة سؤال رئيسي آخر يرتبط بالعولمة وبأحد تجلياتها الرئيسية وما تنتجه من "ثقافة سياسية كونية" من حيث التبلور والشيوع، للتركيز على الديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الانسان وهو: هل سيسير المجتمع العربي- مثلما تفعل مجتمعات شتى - في مسيرة الانتقال من الشمولية والتسلطية الى الديموقراطية مع تعدد صورها، أم ان هناك عقبات ستمنعه من هذا التطور اللازم في عصر العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية. غير ان السؤال الاكثر مركزية، والذي تثيره المجادلات بين المفكرين العرب حول العولمة من حيث انها عملية تديرها ليس فقط قوة كبرى كالولايات المتحدة وانما عدد من الفاعلين: دول وشركات ومؤسسات، فهذا السؤال المحوري هو ما العمل ازاء هذه الظاهرة وكيف التعامل معها والاستجابة لها؟ والواقع ان هذا السؤال وما يفرضه من تحدٍ امام العالم العربي انما يتصل بشكل مباشر بما يتجادل حوله المفكرون العرب على مدى سنوات طويلة حول الحاجة الى مشروع حضاري عربي او رؤية استراتيجية، تعتمد على ارادة سياسية حاسمة للتغيير وسياسات اقتصادية وثقافية متكاملة من شأنها اعادة تشكيل المجتمع وشكل يرقى الى مستوى التحدي الراهن الذي تمثله الثورة العلمية والتكنولوجية. واتساقاً مع الاهتمام الذي يعطيه ياسين في بحوثه ودراساته عن التحولات العالمية للبعد الثقافي، وتأكيده على الحاجة الى التجديد او الإحياء الثقافي، فإنه يبحث في هذا العمل الجديد في ازمة الثقافة العربية ويعتبرها ازمة شرعية وازمة هوية وازمة عقلانية في الوقت نفسه، وهي الازمة التي قادت مناقشات المفكرين العرب حولها الى مقولة اساسية تذهب الى موت وانهيار النظام الثقافي العربي الراهن. فنحن بصدد ولادة نظام ثقافي عربي جديد له سمات تميزه عن النظام العربي القديم. وفي رأي الكاتب ان هذا النظام الجديد يحتاج الى رؤية تأخذ في الحسبان ان هناك "وعياً كونيا" يتشكل، وهو إن كان لن يقضي على الخصوصيات الثقافية والتنوع الثقافي، إلا انه لا بد سيترك طابعه على مسار التاريخ في كل الدوائر الحضارية في العالم. وبهذا المعنى يصبح من اهم سمات النظام الثقافي الجديد اهمية فهم الكونية باعتبارها عملية تاريخية لا ارتداد عنها. فهي أشبه بالنهر المتدفق وإن كان هذا لا يعني اخذها بشكل مطلق وانما بالتفاعل الخلاق معها والمشاركة في صياغة القيم التي ستوجهها، بحيث لا تنفرد القوى الكبرى في صياغة النظام العالمي. ومثل هذا التفاعل الخلاق والمساهمة في صياغة القيم العالمية الجديدة لن يتحقق إلا من خلال صياغة رؤية مستقبلية تقوم أساساً على بلورة مبادرة حضارية عربية عصرية تستند الى التراث الزاخر للحضارة العربية الاسلامية وقادر على التفاعل الانساني الخلاق مع الحضارة الكونية الآخذة في التشكل. ووعياً بدور العلم وتطبيقاته في التحولات العالمية وإدراكاً لحقيقة ان اي مشروع للنهضة كان للعلم والبحث العلمي مكانة عالية فيه، يخصص الكتاب فصله السادس لمستقبل البحث العلمي في الوطن العربي فيناقش وضعه من حيث سياساته ومؤسساته والمناخ العلمي، وعلاقته بالأمن القومي العربي والمشكلات التي يطرحها، ومدى إدراك النخب السياسية العربية لأهمية البحث العلمي، ودور العلميين العرب في تقديم سياسات علمية. كما يستعرض ما انتهت اليه لجان عربية حول تطوير العلوم والتنولوجيا في العالم العربي، والبدائل الاستراتيجية امام تنمية وتطوير البحث العلمي. ويتساءل الباحث وهو يعرض لهذا كله عما اذا كان هناك سياسة علمية عربية قومية، وهل هناك سياسة علمية عربية في كل بلد عربي على الاقل في البلدان الاساسية، ويجيب عن هذه الاسئلة تقريبا بالنفي. فالسياسة العلمية القومية غائبة عن الساحة نتيجة لضعف البنية التحتية للبحث العلمي في البلاد العربية، وضعف ادراك النخبة السياسية العربية للاهمية القصوى لسياسات العلم والتكنولوجيا في تحقيق الامن القومي العربي، والافتقار للارادة السياسية في التنسيق العلمي. أما في ما يتعلق بدور العلميين العرب وما اذا كانوا قد ارتفعوا الى مستوى التحدي بتقديمهم سياسات علمية قابلة للتنفيذ، فيجيب الباحث بعد مسح لإبداعاتهم في مجال تخطيط السياسة العلمية والتكنولوجية: "إن العلميين العرب قد ارتفعوا الى مستوى التحدي وقدموا من خلال المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لصناع القرار العرب خطة متكاملة كان يمكن - لو توافرت الارادة السياسية القومية - ان تنقل الوطن العربي في عقد واحد من موضع علمي مشتت الى بداية طريق الابداع العلمي والتكنولوجي". ويختتم الكتاب بالفصلين الثامن والتاسع ويخصصهما للصهيونية ومستقبل الصراع العربي الاسرائيلي. ويتخذ منطلقه في مواضيع الفصلين من واقعة مرور مئة عام على المشروع الصهيوني وما أثارته من رؤى وتحليلات على الجانبين الاسرائيلي والعربي. وفي تقييم هذا القرن الحافل بالاحداث السياسية الدرامية والحروب الدامية، وبمعنى آخر بالانتصارات الاسرائيلية والانكسارات العربية التي لا تخلو من لحظات نجاح، يعتمد في معالجته على الكتابات الرسمية الاسرائيلية، وعلى مساهمات وشهادات المثقفين العرب في تحديد رؤيتهم للمشروع الصهيوني، وإدراكاتهم لنجاحات الصهيونية وإخفاقها، وتقييماتهم للنضال العربي، وهل نجحت الامة العربية في التصدي لهذا المشروع ام فشلت. وفي هذا السؤال المحوري يسجل الكاتب ان اغلبية المثقفين العرب كان تقييمهم للنضال العربي ضد الصهيونية سلبياً ورأت فيه سلسلة متتالية من الاخفاقات السياسية والعسكرية ، وان قلة منهم، إن لم تنفِ الفشل، ركزت على اللحظات المضيئة مثل حرب اكتوبر، والانتفاضة الفلسطينية ونضيف: المقاومة اللبنانية. فاذا كانت الاغلبية رأت فشل النضال العربي، فما هي اسباب هذا الفشل؟ وماذا عن مستقبل الصراع العربي الاسرائيلي؟ حول هذين السؤالين المحورين يرصد الكاتب رؤى وتحليلات عدد من المثقفين العرب الذين رأى بعضهم ان المشروع الصهيوني نجح لأنه طبق بفعالية قواعد واساليب النموذج الغربي الذي ينتمي اليه اصلا، بينما اعتبر فريق آخر ان الفشل العربي يرجع الى انه قنع بقشور التحديث الغربي ولم ينفذ الى لبابه واكتفى باستيراد الاشكال دون مضامينها. أما عن مستقبل الصراع فقد برزت رؤيتان، ركزت الاولى على مستقبل اسرائيل واحتمالاته، وركزت الثانية على مستقبل الوطن العربي من حيث احتمالات التطور السياسي والاجتماعي والعلمي، وطريقة ادارة الصراع، وتهيئة القوى الضرورية له، وتأثير هذا كله على المحصلة النهائية لهذا الصراع التاريخي الممتد. على اية حال فإننا ازاء عمل يتميز بغزارة مادته وكثافتها الفكرية، وأفقه العالمي الواسع، واستيعابه للقوى السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية التي تحول العالم، ودلالاتها وما تمثله للواقع والمستقبل العربي من تحديات.