1 - دفتر أشياء رجالٌ ونساءٌ يَتَأَرْجحون في الفراغ، لكي يتكيَّفَ بهمُ الهواء. متى تتدفَّقُ في نهر الثقافة العربيّة تلك الجداول التي تغمرُ العالم: جَداوِلُ "رأَى" و"اختبرَ"، و"تغيّرَ"، و"ابتكرَ"، و"انتفضَ"، و"استَشرَفَ" - فيما يسأل ويسأل: متى تضطربُ المياه الآسنة؟ متى تنفجرُ أنابيبُ اليقين؟ هل لِبَشرة العالم عمقٌّ، أم أنَّ السَّطْحَ هو نفسه العمق؟ أسألُ، فيما أنظرُ الى تاريخنا يتجرجَرُ وراءَ التّاريخ. الموت، هذا الموت الفلسطيني، يبتكر هو كذلك أَشْكَالاً جديدةً من الحياة. يُؤَسِّس لِرُؤىً تُخرج الوجودَ من اللّغة التي يتخبّط فيها الواقع، ومن الواقع الذي تتخبّط فيه اللّغة. يسألنا هذا الموت، خصوصاً نحن الذين نمتهنُ الكتابة: لماذا نُمارِسُ الكتابة إن كنّا لا نأمَلُ منها شيئاً؟ هل الموتُ هو الكتابَةُ الأُخرى؟ أو: هل هو الكتابةُ القُصوى التي يمارسُها الجِسْمُ لكي يُغيرَ واقعَ الرّوح؟ الموتُ، هذا الموتُ الفلسطينيّ يكاد أن يحلَّ في المجتمع العربي محلَّ اللّغة، ومحلّ الفكر، ومحل الحريّة، ويكاد أَنْ يأخذ أسماءَها جميعاً. ذلك أَنّه، على الرّغم من كلّ ما يُظنّ، وعلى الرّغْم من العُنْفِ الذي يشوبُه أحياناً ويُقلل مِن تَوهُّجهِ، ليس موتاً ضِدّ "الآخر" بِقَدْر ما هو ضدّ "الذّات"، وليس ضدّ "المنفى"، بقدْرِ ما هو ضِدّ "الوطن". موْتٌ يقول لنا: لم يعد للحياةِ شَكْلٌ، ولم تعد تختزن مُستَقْبلاً. موتٌ "نبويٌّ" من أجلِ مكانٍ عمودي، ضِدّ المكانِ الذي ليس إِلاّ سَطْحاً. مع ذلك، سيكونُ موتاً أشدُّ فظَاعةً وهَوْلاً، أَنْ يتحوّلَ هذا الموت الفلسطيني الى حجابٍ تَخْتَفي وراءه القبورُ التي تُحفَرُ كلَ يوم للقلب والعَقل والجسم في كلّ ناحيةٍ من أنحاء العرب. طِفْلٌ في أَوّل حياته - طِفْلٌ لا يكاد يأخذُ حياته حَتّى يُعْطِيهَا الى الموت. من أين تجيء لهذا الطّفل هذه الشّجاعة؟ من أين يجيئهُ هذا الوعي؟ أمنَ القضيّةِ وحدَها؟ أمِنَ الطَبيعة وحدَها؟ كيف يُصبح الموتُ ملاذاً؟ كيف يُصبح الوسيلةَ الوحيدة للمطالبة بالحياة؟ كيف يَتحوّل الى مَعْقلٍ للطمأنينةِ والأَمْن؟ الموتُ شيخوخةُ الحياةِ، فكيف يَصيرُ شبابَها؟ وهو اليأس، فكيف يصير الأمل؟ والموت قِفْلٌّ أخيرٌ، فكيف يُصبح المفتاحَ الأخير؟ لكن، هل يعرفُ كيف يموتُ من لا يعرف كيف يَحْيا؟ يخلقُ الموت شَفافيةً حَتَّى في عَتَمةِ المادّة. شَمْسٌ، - كان قد استيقظَ فيما تملأ شَفتيه كلمة "موت". ماذا يفعل بالضّوء الذي أخذَ يشعّ من عينيه؟ ربّما لن يعودَ الى بيته. ربّما لن يكونَ أكثرَ من غُصُنٍ يُرْمَى في الموقد. أفي ذلك ما يُتيحُ لَهُ، حَقاً، أن يَنْضَمَّ الى سُلالةِ الضَّوء؟ لم يعرف نفسَه، إِلاّ عندما أحسَّ أنَّ الموتَ يحمله بين ذراعيه. أَخذَ الضّوء يوقظ اللّيل، أخذَ اللَيل يُوقِظ أشياءَه، أَخذَ كلّ شيءٍ يُتَمتِمُ اسْمَهُ ويرتعش لمجرّد وجودهِ على هذه الأرض: - مِن أين يَجيء هذا الدَمُ الذي يصبغُ جدرانَ الأفُق؟ - مَنْ تسأل؟ الطبيعةُ خرساء، والدّليلُ الى بيتِ اللّغة، أَعمى. تعبر الشّارعَ ولا ترَى. أنظرْ هنالك الى تلك الجهةِ، كيف يلتقي فيها معجم الأمسِ وكلمة الغد. أنظرْ، كلّ زاويةٍ غرفةٌ، وكلّ حجَرٍ سرير. مُدّ يديكَ الى هذا الشّارع، الى البيت الذي ولدت فيهِ، أو قُرْبَهُ. سوفَ تكافئكَ أَنْقاضُه، أو جدرانُه، وسوف تكون المكافأةُ، في كلّ حالٍ، مُرّةً وحمراء. الضَّحِك وحده يعرفُ أن يردَّ على البُكاء. وَاهاً لهذه المُفارَقة: لا تهجر الأُنْثَى - الحياةُ عاشِقَها إلاّ في اللَّحظةِ نفسِها التي تحمل أعلى درَجاتِ هَيامه بِهَا. شَيءٌ ما - يتقلّب بين يديكِ، أيّتها الشّمس، شيءٌ ما، يُولد وينمو، شيءٌ ما نَنْتظِرهُ. غداً، يَحضرُ الغيب، لكن، ماذا سيحمل على كتفيهِ، أَجثّة الزّمنِ أم جثّة الوطن؟ ثَمّة نشيدٌ يطلعُ هذه اللّحظة من رطوبةِ الوَقت، غيرَ أَنّ النُّجومَ تتسكّعُ، والقمرَ يستلقي على ظهرهِ، كسولاً، وشبه سَكران. الأصدقاءُ أنفسهم، ينامونَ في السّجون التي بَنوها لأعدائهم. وأين الأرضُ، أين خَدّها الأَيْسر؟ رُبَّما يُعلّمنا الموتُ كيف نبدأ، غيرَ أنَّ الحياة هي وحدَها تُعلّمنا كيف نَنْتهي. 2 - دفتر أشلاء مَا لِرأسي يَشيخُ، وجسميَ طِفْلٌ؟ "أنتَ فينا بُحيرةُ أحلامِنا"، يقولون لي كلَّ يومٍ. وأقول لهم، كلّ يومٍ، رمالي غَلبتْني، فمن أين لي أن أكونَ بُحيرةَ حلْمٍ، ومائِي كَغيريَ لَغْوٌ؟ - 3 - لم يقلْ مرّةً: أُحِبُّ. اتْرَكوهُ، إذنْ، للوحوشِ التي تَتَناهَشُ أَحْشاءَهُ. - 4 - أَنْظُرُ الآنَ في كَبدِ الأُفْقِ: لِلرّيح قَرْنانِ، والشّمس حُبْلى بطيورٍ من النّارِ، تَجهلُ مِن أين جاءَتْ، إلى أين تَمْضي. - 5 - يَشْحَذُ المُتَشَرِّدُ أَسْنَانَهُ كي ينامَ بلا غَصّةٍ، آكِلاً ما تَفتّتَ من خُبْزِ أحلامهِ. - 6 - حَشْدٌ: رأسٌ كِمَّثْرَى، والأفكارُ حديقةُ بَقْلٍ. - 7 - زهرةٌ ترضعُ العِطْرَ مِن ثَدْيِ نَجْمٍ. - 8 - الغيوم تقصُّ علىَ ماء عينيَّ صَحْراءَها. - 9 - وجه هذا الصّباح كوجهِ قَتيلٍ يَشْرَبُ يأسي - لا يَشْرَبُ إِلاّ ماءَ الرّغبَهْ. - 11 - لِلسّماء التي نَتَحرّكُ في ظِلّها كَتِفَا نَاقَةٍ. - 12 - زمَنٌ عنكبوتٌ، يلمّ الخيوطَ مِن الشّعراءِ، وينسج لِلأرض قُمصانَها. - 13 - لِتَجِئْْ كلُّ تلك البراكينِ، مِن أَوّل الكونِ، من آخر الكونِ، وَلْتَتَفَجَّرْ في مَساراتِنا، في مداراتِنا: ما الذي تخسر الأرضَ إن لَفَظَتْ قَيْحَها؟