تظهر معادن الرجال في المواقف الصعبة. هذه جملة علقت بذاكرتي منذ سنوات بعيدة، خصوصاً منذ أن دخلتُ معترك الحياة وعرفت حلوها ومرها، كما عرفت ما يمكن أن يفعله البشر حين تختل موازين الأمور، أو يستولي الشر في ملكوت الله، كما قال الشاعر صلاح عبدالصبور من وراء قناع الحلاج الصوفي الذي كتب صلاح مسرحية شعرية عنه. ومن الطبيعي أن تتفاوت استجابات الأصدقاء أو الزملاء، أو المعارف، حين يدلهم الخطب بواحد منهم، فتجد من يفر منه فرار السليم من الأجرب، ومن يخفي الود الذي كان يظهره من قبل، ومن يتردد ما بين الإحجام والإقدام في مدّ يد العون، والقليل القليل من يظل على عهد الوفاء، فلا يفارق الودّ، أما أقل هذا القليل فهو من لا يترد في تقديم العون والمساعدة. وقد بلوت هذه الأنواع جميعاً، في سنوات عمري الذي يدنو من الستين، وأتيح لي أن أشهد من مواقف البشر وسلوكهم ما أشعل أكثر الرأس شيباً. وأحسب أن ضعف ذاكرتي في ما يتصل بسقطات البشر الذين تعاملت معهم كان ، ولا يزال، إحدى الخلال الجميلة التي أنعم بها الله عليّ عندما جعل ذاكرتي تسقط الآثار المؤلمة لأفعال الذين نعيش معهم، ولا تحتفظ بالذكريات السيئة للأفعال التي اقترفوها أو المواقف التي صغروا فيها، الأمر الذي حماني من إطلاق سوء الظن بالبشر جميعاً، أو الانتهاء الى الموقف النفسي القائم الذي عبّر عنه الشاعر القديم بقوله: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدتُ أطير وهو الموقف الذي دفع الشنفرى الذي كان واحداً من أبرز شعراء الصعاليك في تراثنا الشعري العربي الى كتابة قصيدته اللامية الشهيرة التي أطلق عليها المتأخرون اسم لامية العرب، وذلك لما تنطوي عليه من قيم عربية أصيلة وملامح نفسية استثنائية. وتبدأ هذه اللامية بالدعوة الى الارتحال عن عالم البشر، والعيش في عالم الوحوش الذي هو عالم أكثر نقاء ووفاء من عالم البشر القائم على الظلم والقسوة والغش والخداع والأنانية والرياء والشر. ولذلك كان الذئب القويّ والنمر الأملس والضبع ذو العرف الطويل هم الأهل، في مطلع قصيدة الشنفرى، الأهل الذين يميل إليهم الشاعر الذي كان يريد إدانة الإنسانية عندما أعلن أن رفقة وحوش الفلا تغني عن نميمة البشر وطعنهم من الخلف لأنها كائنات لا تخذل صاحبها ولا تبدي له غير ما تبطن. وأحمد الله على أنني لم أصل الى حال تسيطر معه هذه النظرة السوداوية الى البشر، فقد عرفت دائماً حتى في أحلك المواقف والأزمات من حفر في عقلي ووجداني معنى الوفاء والإخلاص والشهامة، وكنت - ولا أزال - أجد دائماً من يعينني على مواجهة الأحداث الصعبة، ومن يفاجئني بما يظهره من جوانب نبيلة لم أكن أتوقعها، و حتى خارج دائرة الأصدقاء الحميمين أو ذوي القربى. ولا أزال أحسب نفسي محظوظاً في هذا الجانب، وأستبدل بالوجه السالب من السلوك الإنساني الوجه الموجب، فأنظر الى النصف المليء من الكوب وليس الى نصفه الفارغ. وقد ظل هذا النوع من النظر حافزاً يدفعني الى التمسك بأصدقائي مهما كانت هفواتهم، مدركاً أنني مثلهم في هذه الهفوات، وأنه ما من إنسان كامل، وأن الفطنة هي في قبول الأصدقاء على ما هم عليه، طالما أنهم لا يترددون في إظهار طيب معدنهم وقت الشدائد. وقد تعلمتُ من تجاربي في الحياة البحث عن الجوهر وليس العرض، واكتشاف معادن الرجال النفيسة التي تجعل من مصاعب الحياة أقل وطأة على النفس، وأخف وقعاً على المشاعر، ولا تزال ذاكرتي عامرة بمواقف الأصدقاء الذين أكدوا لي حسن الظن بالمعادن الأصيلة في دواخلهم، ولا أزال أجد حولي من أثق في أنهم من العنصر الإنساني النبيل الذي يتكشف أجمل ما فيه وقت الأزمات. صحيح أن عدد هؤلاء قليل جداً، ولكن من ذا الذي يهتم بكثرة العدد، فالأهم أن يجد الإنسان من يقف الى جانبه في المواقف الصعبة، حتى لو كان فرداً واحداً في أسوأ الاحتمالات. وقد كان صديقي يوسف ادريس رحمه الله من هذا النوع من البشر الذين تظهر الأزمات طيب معدنهم. أذكر أنني اقتربت منه اقتراباً حميماً في سنواته الأخيرة بفضل أمل دنقل الذي كان خير صديق عرفته بين المبدعين. وقد كانت بداية العلاقة عادية، تتمثل في لقاءات وسهرات غير منتظمة. ولكن، فجأة، حدثت الأزمة التي جعلتني ألمس عن قرب طيب معدن يوسف إدريس. وكان ذلك في شهر أيلول سبتمبر 1981، حين قام الرئيس محمد أنور السادات بطرد أكثر من ستين أستاذاً من الجامعات المصرية وسجن بعضهم. وكانت حجته الظاهرية هي اتهامنا بالعمل على تقويض الوحدة الوطنية، بينما كانت تهمتنا الحقيقية أننا كنا ضد الصلح مع إسرائيل. وكنت بين الأساتذة المفصولين الذين تفاوتت استجاباتهم الى أزمة الفصل من الجامعة، تلك الأزمة التي أظهرت هوان بعض نفوس زملائنا الذين أعماهم الحقد وأنستهم الغيرة انسانيتهم، كما دفعت الكثيرين الى إنكار صلتهم بنا خشية وجبْناً وتقية. ولكن يوسف إدريس الذي لم أكن أعرفه معرفة حميمة، في ذلك الوقت، فاجأني بسلوكه ومواقفه التي مسحت عن صدري وقع الخيبة الإنسانية، تلك الصفة التي كان أمل دنقل يكررها باستمرار. وكان يوسف ادريس لا يكف عن الاتصال بنا، والاطمئنان علينا، نحن المفصولين، طوال الأيام الحزينة لشهر أيلول سنة 1981. وما أكثر ما كانت تنتابه نوبات الكرم الشرقاوي نسبة الى محافظة الشرقية المعروفة بالكرم. وكنت أداعبه بسبب هذه النوبات بتذكيره بصفته "تحويد العروسة" القديمة التي نشرها للمرة الأولى في تموز يوليو سنة 1957. وكان يرد دائماً على مداعباتي بالإلحاح على دعوتي لزيارته في مبنى "جريدة الأهرام" والغداء معه يومياً تقريباً. كما لو كان يريد أن يعلن للجميع مساندته لكل الذين فصلهم السادات من الجامعة. وبقدر ما كنت أعتذر له عن قبول الدعوة، والذهاب إليه في "الأهرام"، كان يحث أمل دنقل العزيز على جرّي جراً الى مبنى جريدة "الأهرام". وعندما يئس من ذهابي إليه جاء هو الى منزلي مع جمع من المثقفين الذين لم تنلهم سهام شهر أيلول. وأذكر أننا قضينا سهرات لا تنسى في منزلي، وطرزنا ليالينا اللاحقة بمناقشات رائعة حول كل شيء. ولم يتوقف يوسف إدريس عن السؤال والاهتمام، والتأييد والدعم، حتى بعد أن ذهبت الى السويد لكي أعمل استاذاً زائراً في جامعة استوكهولم. وهناك سعدت بمعرفة أن يوسف ادريس كان أحد المرشحين لجائزة نوبل، وأن القسم الذي أعمل به هو الذي قام بترشيحه لهذه الجائزة، بعد أن سبق له ترشيح نجيب محفوظ الذي كانت الجائزة الكبرى من نصيبه. وكان طبيعياً أن تتوقف علاقتي بالعزيز يوسف بعد عودتي من السويد، وعودتنا جميعاً الى مناصبنا في الجامعة التي رحّبت برجوعنا إليها في ما يشبه الاعتذار، كما لو كانت تكفُر عن ذنب لم ترتكبه هي وإنما ارتكبه السادات. وتواصلت اللقاءات مع يوسف ادريس، وتعددت السهرات التي لم تكن تخلو من أمل دنقل وأشعاره، ولم تكن تخلو من الاستماع الى قصص يوسف القصيرة التي استوعبتها المجموعتان الأخيرتان اللتان صدرتا في حياته. وقد أتاحت لي هذه اللقاءات المشتركة اكتشاف أوجه شبه عديدة بين أمل دنقل ويوسف إدريس، ابتداء من الموهبة الإبداعية الفذّة، مروراً بالنفور من زمن السادات بانفتاحه العشوائي، وانتهاء بالوفاء النادر والشهامة البديعة والإخلاص الفذّ، وغير ذلك من الصفات التي أبرزها سلوك الصديقين العزيزين ومواقفهما التي لن أنساها ما حييت. وقد توفي أمل دنقل قبل يوسف ادريس الذي رثاه بنص إبداعي أقرب الى الشعر منه الى النثر، وكان ذلك في الاحتفال المهيب الذي أقامه حزب التجمع في مصر بعد وفاة أمل دنقل، وتحدث فيه الكثيرون ما عداي، فقد أخرستني صدمة الحزن على صديقي الذي كنت أجد فيه توأم روحي. ولم يعد اللقاء أو السهر مع يوسف ادريس كما كان في حياة أمل دنقل، فقد تغير مذاق الأشياء والأفكار، وسَرَتْ ذرات الموت في سموات الأماسي كالنذير. وسرعان ما فارقنا يوسف ادريس، وتركنا ليلحق بأمل دنقل، فبكيته كما بكيت أمل دنقل، وردّدتُ في داخلي كلماته التي تقول: "كل الأحبة يرتحلون فترحل عن العين شيئاً فشيئاً ألفة هذا الوطن".