صحيح ان نهاية محمد نجيب السياسية كانت قد بدأت قبل ذلك، وتحديداً منذ شهر آذار مارس من العام 1954، يوم اندلعت الصراعات عنيفة وعلنية هذه المرة بين هذا الزعيم الشكلي لثورة الضباط الأحرار، وبين الزعيم الفعلي لها جمال عبدالناصر. ولكن، بما ان اللعبة كانت دقيقة للغاية، كان على عبدالناصر ان يحيك نسيجها بدقة وهدوء أعصاب حتى يتخلص من خصم، لم تكن له في الأصل قوة، لكنه عرف بدهاء شديد كيف يجعل لنفسه تلك القوة مستفيداً، من ناحية، من جملة أخطاء ارتكبها عبدالناصر ورفاقه، ومن ناحية ثانية، من صراعات خفية على السلطة كانت تحتدم الى جانب صراعات حول مسائل مثل التعددية الحزبية والديموقراطية والموقف من الغرب. في تلك الصراعات كلها كان جمال عبدالناصر يراكم الأعداء كما يراكم الأخطاء، وكان محمد نجيب يتقرب من أولئك الأعداء، بمن فيهم الاخوان المسلمون، وصولاً حتى الى اكتساب بعض أقرب المقربين من جمال عبدالناصر، مثل خالد محيي الدين الذي، لئن كان قد وقف مؤيداً نجيب في لحظة من اللحظات، فإنه لم يؤيده إلا باسم الديموقراطية. إذاً، على ضوء دقة الصراع، انتظر جمال عبدالناصر ان "تنضج" الظروف، حتى يتمكن يوم 14 تشرين الثاني نوفمبر 1954، من اطاحة نجيب ووضعه في الاقامة الجبرية منهياً له حياته السياسية التي كانت قصيرة على أية حال. ولقد وضعنا كلمة "تنضج" بين هلالين هنا، لأن الظروف لم تنضج لوحدها كما نعرف، بل كان جمال عبدالناصر هو نفسه من أنضجها. وبحسب شهادة خالد محيي الدين، الذي بقي على وفائه لعبدالناصر على رغم كل شيء، إذ أنه يروي لنا في كتابه "والآن أتكلم"، كيف انه حين قابل جمال عبدالناصر بعد أن نفي الى أوروبا وأبعد عن مناصبه بأمر من الرئيس، استقبله هذا الأخير بود وأسرّ له بكل صراحة انه كان هو، عبدالناصر، من رتب "أحداث مارس"، وتحديداً اضراب عمال النقل، وما لحق به من اضرابات وتظاهرات عمالية، قال عبدالناصر انه فعلها رداً على اجتماعات "الميس الأخضر" في سلاح الفرسان الفرقة العسكرية التي وقفت الى جانب محمد نجيب في صراعه مع عبدالناصر في ذلك الحين. وقال عبدالناصر ببساطة - بحسب خالد محيي الدين - ان ترتيب تلك الأحداث كلفه أربعة آلاف جنيه. وقال: "أنتم تحركتم في الفرسان وأنا رديت عليكم. واحدة بواحدة، ونبقى خالصين". غير ان ما لم يقله عبدالناصر يومها لخالد محيي الدين هو ان أجهزة الدولة كانت هي أيضاً من رتب - بحسب مؤرخين عديدين يعارضهم مؤرخون آخرون ينفون هذا - حادثة محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في المنشية، لتلصق التهمة بالاخوان المسلمين - حلفاء محمد نجيب الرئيسيين في ذلك الحين - ما أدى الى اعتقال الآلاف منهم. وكان هذا الحادث ما رفع من شعبية عبدالناصر وجعله - بالفعل - قادراً، على توجيه ضربته الكبرى: التخلص من محمد نجيب باعتباره صار عبئاً حقيقياً على سلطة الضباط الأحرار. ومن المعروف ان محمد نجيب لم يكن أصلاً من الضباط الأحرار، بل كان ضابطاً كبيراً ذا شعبية، ثار خلاف بينه وبين القصر في مسألة انتخاب رئيس لنادي الضباط، فوقف الضباط الأحرار الى جانبه. وحين قاموا بثورتهم بعد ذلك عينوه زعيماً للثورة من دون أن يكون على علم مسبق بها. وهكذا، دفع محمد نجيب، ثمن طموحه الوليد. وخصوصاً حين أبدت الثورة رغبتها في تأسيس دولة علمانية حديثة فانتفض الاخوان المسلمون عند بدايات ذلك العام نفسه وأقنع البعض نجيب بتقديم استقالته في لعبة ضغط عنيفة، ففعل، لينتفض الشارع وجزء من الجيش سلاح الفرسان خصوصاً الى جانبه، ما أجبر عبدالناصر على قبول رجوعه الى السلطة يوم 27 آذار مارس من ذلك العام. ولكن عبدالناصر، الذي قبل ذلك على مضض، لعب لعبته في اليوم التالي تماماً، وحرك نقابات العمال والشارع وحقق انتصاراً، ثمره لاحقاً بعد شهور، حين كانت قضية اغتياله، ما مهد السبيل الى ازاحة نجيب، وكان لعبدالناصر ما أراد، وانتهت الحياة السياسية لهذا الأخير على ذلك النحو. الصورة: عبدالناصر الذي صار الرأس الاول.