يأمل اللبنانيون بأن تسهم "الهدنة" الممتدة بين فترة اعلان نتائج الانتخابات العامة وبدء الاجراءات الدستورية لتكليف رئيس الوزراء العتيد وتشكيل الحكومة الجديدة في تهدئة النفوس للانطلاق نحو مرحلة العبور من المأزق الراهن. فبعد 40 يوماً على الانتخابات يقف الجميع على مسافة واحدة من الواقع المرير الذي يعيشه لبنان اليوم ويقف فيه أمام مفترق طرق حقيقي بين الخروج منه وبدء مسيرة الانقاذ، والدخول مجدداً في متاهات دوامة لا قرار لها. الكل يحذر من "حافة الانهيار" و"قاع الهوة" ويتحدث عن الأزمة الاقتصادية الخانقة فيما يلوح بعض المتشائمين بعودة شبح الحرب الأهلية في حال استمرار التردي وعدم الاتعاظ بدروس الماضي. وسط هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والترقب، تتركز الأنظار على مسألة ترشح رئيس الحكومة وفق مبدأ الاستشارات البرلمانية الملزمة التي سيجريها رئيس الجمهورية بحسب بنود اتفاق الطائف والتي تفترض أن يسمي كل نائب مرشحه أو أن يمتنع من الترشيح ولا يفوض الرئيس حتى لا يتكرر ما جرى في الاستشارات السابقة وأدى الى اعتذار الرئيس رفيق الحريري وتكليف الرئيس الدكتور سليم الحص. أحاديث الموالاة والمعارضة خفت حدّتها لأن المعارضة التي قيل انها "اكتسحت" في الانتخابات كانت في معظمها معارضة للحكومة وليس للعهد، كما ان الكثير من النواب والكتل والأحزاب يمكن أن يعيد حساباته السابقة وفق اتجاه الريح ومصالحه السياسية ما يؤدي الى اعادة خلط الأوراق من جديد. ويبدو الرئيس الحريري الآن صاحب الحظ الأوفر في تشكيل الحكومة الجديدة من خلال حسابات أعضاء كتلته وكتلة النائب وليد جنبلاط والنواب الذين بادروا الى ترشيحه سلفاً على رغم انه آثر التكتم والتعتيم على نياته ورغباته. وهناك من يتحدث عن سيناريوهات كثيرة، منها: تكرار عملية التفويض لحمل الرئيس الحريري على الاعتذار مجدداً. أو حصوله على أكثرية ضئيلة: 60 أو 70 صوتاً من أصل 128 عضواً في مجلس النواب. أو حصوله على أكثرية ذات لون طائفي أو سياسي معين ما يؤدي الى احراجه ودفعه الى الاعتذار أو القبول ليأتي ضعيفاً عكس ما خرج به من الانتخابات الأخيرة. أو ان يحصل على ما يريد من الأصوات ثم يواجه بعقبات التشكيل والتأليف والتوزير وفرض بعض الأسماء التي لا يرغب في التعاون معها فيضطر إما للرضوخ أو للاعتذار، ولهذا يتلقى الرئيس الحريري اليوم من أصدقائه نصائح بأن يتحلى بالصبر والحكمة ويتجنب الدخول في شرك الاستفزاز والتصعيد وألاّ يفقد أعصابه مهما واجه من صعوبات حتى لا يضيع آخر فرصة له في عهد الرئيس اميل لحود على رغم كل ما يتردد من اشاعات عن تكليف الوزير والنائب المنتخب عن الشمال نجيب ميقاتي رئاسة حكومة انتقالية مرحلية تمهد لعودة الحريري الى الحكم. والوزير الميقاتي مرشح جدي ومنافس أول في هذه المرحلة بعد تحييد أو "الغاء" منافسين كبار مثل النائب تمام سلام الذي أثبت مرة أخرى ترفعه وأصالة البيت العريق الذي ينتمي اليه، والرئيس الدكتور سليم الحص المعروف برصانته ونزاهته ونظافة كفه وشعر أهل بيروت بالندم لما فعلوه به في الانتخابات، والرئيس عمر كرامي الذي ضرب من بيت أبيه في طرابلس والشمال للمرة الثانية. وهناك أسماء أخرى في بورصة الترشيحات ولكنها تقبع في أدراج الاحتياط مثل العدنانين: عدنان عضوم المدعي العام التمييزي، وعدنان قصار رئيس غرفة التجارة والصناعة، ومصطفى سعد النائب الصيداوي الذي رشح نفسه من دون أن يحظى بتأييد جدي من أحد، وربما أسماء لمرشحين في الظل تظل في خانة المفاجآت. والجدل الدائر الآن في بيروت وكأنه بيزنطي لأنه يدور على من يأتي أولاً "الشخص المنقذ" أو برنامج الانقاذ، ولكن الآراء تتفق على أمر واحد هو أن لبنان يحتاج الى انقاذ حقيقي في مرحلة حرجة ومأزق فعلي يعيشه على الصعد كافة ولا سيما الصعيد الاقتصادي. والأكيد ان من يجمع بين الاثنين يعطي أملاً أكبر برؤية النور في نهاية النفق حيث ينطلق دولاب العمل ويتم ضخ المال في الآبار الجافة وفق مبدأ يقول: عندما يتعانق المال والعمل يمضي الجميع ليلة سعيدة. ومع هذا فإنه من الظلم والاجحاف بحق المواطن والوطن تصوير الأمور بهذه البساطة وبأن الترياق سيجلبه معه هذا الشخص أو ذاك وأن أنهار السمن والعسل ستتدفق بكبسة زر واحدة. فالأزمة حقيقية، والمشكلات كثيرة والصعوبات والعقبات لا تعد ولا تحصى وأي رئيس حكومة سيأتي اليوم هو فدائي حقيقي ومغامر قد يحرق أصابعه ومعه اسمه وتاريخه ومستقبله السياسي إذا لم يحسن التصرف ويتخذ القرارات الحكيمة والصعبة، وربما القرارات المؤلمة التي أشار اليها رئيس مجلس النواب نبيه بري، كما انه لن يستطيع أبداً أن يعمل وحده من دون تعاون كامل مع رئيس الجمهورية وفريق عمل متجانس ومتضامن حتى يتحمل الجميع المسؤولية الكاملة، لأن ملفات الحكومة العتيدة هي في الواقع بمثابة تحديات كبرى وربما قنابل موقوتة تحتاج الى عمل جدي لإيجاد الحلول الناجعة ونزع فتيلها. ويمكن تلخيص العناوين الرئيسة لهذه الملفات بالنقاط الآتية: تحقيق الانسجام بين أهل الحكم وتعاونهم بعيداً من رواسب الماضي، وقد أكد الرئيس لحود أنه يقف على مسافة واحدة من الجميع وأنه مستعد للتعامل مع أي مرشح يتم اختياره وفق الأصول الدستورية من أجل تنفيذ خطاب القسم والمضي في خطة الانقاذ. وهذا يفتح باب الأمل لتحقيق معادلة لحود - الحريري وانجاح تجربة يترقبها الجميع . اكمال مسيرة الاصلاح الإداري ومحاربة الفساد المستشري بعيداً من الأخطاء السابقة والحساسيات الشخصية وعملية الانتقام أو التمييز. اقرار قانون عصري للانتخابات يرضي الأفرقاء ويحقق العدالة والمساواة بين المواطنين ويقضي على أسباب الشكوى ويزيل الثغرات الموجودة في القانون الحالي. قضية الوجود السوري: ويبدو ان مساحة من الحرية قد توافرت في لبنان لطرح هذا الموضوع في شكل واسع وعلني خصوصاً بعد بيان البطريرك والمطارنة الموارنة، ما يمهد لتصحيح المسار وازالة أسباب الشكوى وبناء أواصر الثقة واقامة علاقات مميزة على الصعد كافة بعيداً عن التحديات والمواقف الانفعالية. ويبدو ان خطاباً سياسياً جديداً قد بدأ يتبلور بين البلدين اللذين تجمعهما مصالح وروابط كثيرة، خصوصاً أن سورية في عهد الرئيس بشار الأسد أبدت انفتاحاً أكبر وأعلنت انها تقف على مسافة واحدة من الجميع خلال الانتخابات الأخيرة. الغاء الطائفية السياسية وفق بنود اتفاق الطائف وهذا الأمر يحتاج الى وقت طويل وتوافق غير متوافر حالياً وسط أحاديث عن "احباط مسيحي" ومخاوف من طغيان طائفة على أخرى أو على "الآخرين" مع عدم انكار وجود مبالغات في هذا المجال. موضوع الجنوب وحساسياته وسلاح المقاومة، وحزب الله بالذات، وهو يتطلب معالجة حذرة وحواراً بناء لا سيما بعد تحرير الشريط المحتل وانسحاب اسرائيل من أجل تعديل قانون الانتخابات ليعامل الجنوب كبقية أجزاء لبنان من دون تمييز ولا استثناء ثم بحث كيفية بسط سيادة الدولة وسيطرتها التامة والأحادية على أرجاء المنطقة كافة ليطمئن الناس ويقطع دابر الشكاوى وتمنع أي محاولة لاعادة تعريض الجنوب... ولبنان في شكل عام لمخاطر جديدة. وهناك تيار يعارض هذه الخطوة على اعتبار ان سلاح المقاومة يجب ان يظل مرفوعاً ليستخدم كورقة ضغط في وجه اسرائيل التي ما زالت تحتل بعض الأراضي اللبنانية وترفض الافراج عن الأسرى والمخطوفين اللبنانيين اضافة الى رفض التفريط بوحدة المسارين السوري واللبناني فيما يؤكد التيار الآخر أن المسارين لا يمكن فصلهما وأن وجود سلاح المقاومة سيمنح اسرائيل ذرائع دائمة لتهدر أمن لبنان والتلويح باعادة احتلال أراضيه وقصف منشآته الحيوية. استحقاقات السلام واحتمالات التعثر بعد انتفاضة الأقصى وانعكاساتها والفراغ المتوقع خلال معركة الرئاسة الأميركية وعملية الاستلام والتسليم، مع عدم استبعاد كسر الجمود وفق مقولة "اشتدي أزمة تنفرجي" مما يفتح باب النقاش حول مسألتين مصيريتين بالنسبة الى لبنان، هما: سلاح المخيمات ومؤامرة التوطين. وتبقى الأزمة الأهم والمعضلة الأعظم هي الأزمة الاقتصادية وهي المبتدأ والخبر للحكومة الجديدة التي يتوقع ان تكون شغلها الشاغل وميزان عملها ونجاحها أو فشلها. فالمواطن اللبناني لم يعد يحتمل أي تأخير في الحل على رغم ادراكه صعوبة تحقيقه دفعة واحدة أو بسحر ساحر ولكنه يريد اشارات فعلية وأعمالاً جدية يطمئن فيها على حاضره ومستقبله ويرى بأم عينيه برنامجاً فعلياً للانقاذ وآلية عمل وحلولاً للمشكلات المتراكمة من بطالة وركود وضرائب باهظة ورسوم وغلاء معيشة وهجرة خيرة الخبرات والأدمغة واليد العاملة من الشباب عماد لبنان في المستقبل، وحل مشكلة الديون والعجز في الموازنة من أجل طمأنة الرساميل اللبنانية والعربية والأجنبية على سلامة الأوضاع وعودتها لتسهم في رفع عملية البناء والإعمار التي بدأت من قبل، وتشجيع الدول المانحة لمساعدات على تنفيذ وعودها وتعهداتها، والبدء بمرحلة النهوض من العثرات وتجاوز آفات التركة الثقيلة المتراكمة منذ أكثر من نصف قرن وليس من عقد من الزمن فحسب. إذاً "مارتا - مارتا والمطلوب واحد"، فالكل متفق على خطورة الوضع الاقتصادي والمعيشي، ولكن لا أحد مستعداً للتضحية فالحاجة ماسة الى من ينظف النهر لا الى من يقول ويردد ان النهر قذر والى من يضيء شمعة وليس الى من يلعن الظلام... والتضحيات مطلوبة من الجميع: من القمة الى القاعدة حتى ينجح لبنان في اجتياز المنعطفات الخطرة ويصل الى بر الأمان. * كاتب وصحافي عربي.