تحول علي مراد بين ليلة وضحاها من طيار يعمل في مؤسسة "مصر للطيران" إلى بطل قومي ورمز لمناهضة "العدو الإسرائيلي" و"الهيمنة الاميركية". هبط بطائرته الإيرباص في غزة للمرة الأولى ويبدو أنها الأخيرة على هذا الخط. وانتظر الركاب ال 90 ليقلهم إلى القاهرة، إلا أن قوات الأمن الإسرائيلية أحاطت الطائرة من الخارج تأهباً لتفتيشها، وهو ما رفضه مراد تماماً. هذا الرفض الذي قذف باسمه على صفحات الجرائد، وبصورته على شاشات التلفزيون، وبسجله المهني على مكاتب مسؤولي "مصر للطيران". 4 ساعات أمضاها مراد في طائرته، مداولات واتصالات مع قطاع العمليات في "مصر للطيران" من جهة، والسفير المصري لدى السلطات الفلسطينية من جهة أخرى. والعبارة الوحيدة التي خرج بها كانت "اتبع تعليمات الطيران المدني" التي تمنع تماماً أي تفتيش مسلح للطائرة طالما قائدها فيها. و"الطائرة" على حد قوله "شأنها شأن السفارة، أرض مصرية ذات سيادة"، لكنها في نظر الطرف الإسرائيلي تخضع لبنود اتفاق "واي بلانتيشن"، ومن ثم للتفتيش. الإعلامي حمدي قنديل تهكم من ذلك بقوله: "اخشى أن يكون هناك بند في اتفاق "واي بلانتيشن" ينص على معاقبة المذيع الذي ينتقد اسرائيل". مراد بدوره سأل هل هناك نصوص في المعاهدة تنص على توقيع شرط جزائي على "مصر للطيران" لعدم صعود الركاب الى إحدى طائراتها في حال امتناع قائدها عن خضوعها لتفتيش مسلح؟ وبعيداً من الاتفاقات والتعليمات، يبدو أن أفراد الأمن الإسرائيليين تعاملوا مع قائد الطائرة منذ البداية بأسلوب الاستفزاز المتعمد والمعتاد من جانبهم، وربما ساهم ذلك في تمسكه بموقفه الرافض التفتيش. يقول "السياسي المحنك البارع وزير الخارجية المصري عمرو موسى بدت عليه العصبية واضحة من جراء الاسلوب المستفز لوزير خارجية إسرائيل بالإنابة شلومو بن عامي في مناظرتهما التلفزيونية. فما بالك بي، وأنا بعيد كل البعد من السياسة والحنكة والديبلوماسية. كان استفزازاً يفوق الوصف". وكانت النتيجة أن مراد أقلع من غزة وعاد إلى القاهرة وطائرته خاوية. ويشير الى أن السلطات الاسرائيلية هي التي منعت الركاب من الصعود الى الطائرة، ما دعاه الى رفض الاتهام الموجه الىه من مؤسسة "مصر للطيران"، بتسببه في التأثير سلباً في حركة الحجوزات على رحلة القاهرة - غزة واتهم بتوجيه التهمة الى اسرائيل. بل اقترح رفع دعوى تعويض قضائية ضد اسرائيل نظير الخسائر التي تكبدتها الشركة. تصريحات "مصر للطيران" أشارت الى أن مراد أوقف عن العمل لحين الانتهاء من التحقيق معه. واتسمت نبرة التصريحات والبيانات ب"العداء" او بالأحرى بانعدام التضامن مع مراد، بل أن رئيس المؤسسة المهندس محمد فهيم ريان أكد في مؤتمر صحافي قبل أيام أن الغرض من تصرفات الطيار في غزة هو استغلاله في انتخابات رابطة الطيارين المصريين. إلا أن الرابطة أصدرت بياناً أيدت فيه كل مواقف مراد، وألقت اللوم على قطاع العمليات في "مصر للطيران" لعدم إصداره تعليمات صريحة في شأن خضوع الطائرات المصرية للتفتيش في غزة، لم يبلغ الطيار الإجراءات المتبعة قبل إقلاعه. "الحياة" حين سألت مراد عن تاريخ توليه منصب السكرتير العام للرابطة حدده بأنه "قبل سقوط الطائرة المصرية 990 في البحر الاميركي". واختياره وصف "البحر الأميركي" ذو مغزى. وأثناء زيارة كلينتون السريعة للقاهرة قبل اسابيع أرسل مراد إنذاراً على يد محضر له، ووصف تصرفه آنذاك بأنه كان في صيغة شكوى: "خاطبت هيئة سلامة النقل الجوي الاميركي مطالباً إياها بتقديم صور الرادارات العسكرية، واستخراج مجموعة الذيل، والتأكد من صحة ما تردد ان الطريق الجوي كان مغلقاً 10 ساعات قبل إسقاط الطائرة لأن العالم يريد أن يعرف الحقيقة". صحف مصرية عدة - غير قومية - ومناهضة للتطبيع أقامت حفلات تكريم على شرف مراد تحية له على موقفه "الوطني". أما الصحف القومية فانتهجت اسلوباً من اثنين، إما تغطية أزمة الطيار مع "مصر للطيران" من منطلق إخباري بحت، وإما الإشادة - على استحياء - بتصرف مراد. مراقبون وصفوا تكريم جهات إعلامية لمراد بأنه "زج بمراد في ملعب أكبر من إختصاصاته". أما الرأي العام المصري، فهو متضامن قلباً وقالباً معه. فالمناخ السياسي ملائم تماماً لذلك. ومحادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في حال تعثر والعلاقات المصرية - الاميركية ليست في كامل عافيتها. ورجل الشارع في حال استياء من "العم سام" و"أولاد العم". أما "مصر للطيران" فيبدو أن مسؤوليها لم يصلوا إلى قرار حاسم بعد في شأن الطيار. البداية كانت إيقافه عن العمل، وهو ما ألزمه بيته، و"التزام البيت" لطيار يعني انخفاض دخله نحو 90 في المئة. يقول مراد: "الاعتماد الرئيس لنا يكون على الدخل الذي نتقاضاه نظير ساعات الطيران، لا على الراتب الثابت، وأنا حالياً أشبه بالبيت الوقف، وعلى أي حال الرزق على الله". ويبدو أن قرار الوقف هذا يؤدي غرضين، فهو بمثابة "قرصة أُذن"، للطيار على تصرفه في غزة على رغم أن عدداً من زملائه أكد تعرضه لمشكلات شبيهة من قبل في غزة. والغرض الثاني هو إعطاء المسؤولين فسحة من الوقت لتدبر التصرف الذي يجب اتخاذه مع "الإبن الضال". إشاعات قوية ترددت عن أن هناك محاولات لإقناع مراد بتقديم استقالته على أن توفر له فرصة عمل مجزية في شركة طيران أخرى، وهي ما لم ينفها أو يؤكدها مراد، وإن ذكر أن زملاء له اقترحوا عليه هذا "الاقتراح" في صورة "نصيحة". وهو يبدو متمسكاً جداً بعمله في "مصر للطيران" التي يصفها بأنها "بيته"، ولذلك فإن نية الاستقالة ليست موجودة. ونعود الى موقعة غزة حيث يتساءل مراد: "لو كان الغرض من تفتيش الطائرة هو توفير عنصر الأمان، فلماذا تركوا الطائرة تقلع من غزة الى القاهرة؟". وهو السؤال الذي يطرحه مراد ليؤكد أن طلب القوات الإسرائيلية تفتيش الطائرة مظهري وليس لتوفير الأمن. يذكر أن مراد عمل قبلاً على الخط الجوي الذي تسيره "مصر للطيران" بين القاهرة وتل أبيب، ويقول: "على رغم ذلك لم أتعرض قط للموقف الذي تعرضت له في غزة".